حقق الاجتماع الثاني لمجلس الأمن الدولي في نيويورك يوم الإثنين 18/12/2017، التأكيد على ما فعله الاجتماع الأول يوم 7/12/2017، وفي الحالتين التأما على خلفية قرار الرئيس الأميركي ترامب بإعلان الاعتراف بمدينة القدس عاصمة للمشروع الاستعماري التوسعي الإسرائيلي، ونقل السفارة الأميركية من تل أبيب إلى القدس، فتم عقد الاجتماعين لمجلس الأمن في مسعى لإعلان الرفض الدولي لقرار الرئيس الأميركي لما يحمله من مضامين تتعارض مع الشرعية الدولية وقرارات الأمم المتحدة ولجانها ومؤسساتها المتخصصة، وقد تحقق المسعى المعنوي السياسي، من عقد الاجتماعين، على الرغم من عدم صدور قرار عن المجلس بسبب الفيتو الأميركي، ومع ذلك وصل المسعى إلى السقف المتاح. 


فقد أصرت الدول الأربع عشرة، أعضاء مجلس الأمن من دائمي العضوية الأربعة، ومن البلدان العشرة ذات العضوية الانتقالية المؤقتة، وخاصة من قبل أصدقاء الولايات المتحدة وحلفائها وهم فرنسا وبريطانيا وإيطاليا واليابان والسويد، أصروا على رفض القرار الأميركي خلال الاجتماعين الأول والثاني، ما يدلل على متانة موقعهم، وقوة إصرارهم، ومدى انحيازهم العلني الإيجابي لعدالة الموقف الفلسطيني وشرعية مطالبه، ورفضهم للسياسات الأميركية التي توفر مظلة للاحتلال الإسرائيلي وغطاء لحمايتها من المساءلة القانونية. 
ومن جهتها، أصرت الولايات المتحدة خلال الاجتماعين على قرار نقل السفارة بما يتعارض مع قرارات مجلس الأمن ذات الصلة بالقدس 476 و 478، والقرار الأخير 2334 الصادر يوم 23/12/2016، وكل التوجهات الدولية في رفض الضم، والمطالبة بانسحاب قواتها الاحتلالية، وعدم شرعية المستوطنات الاستعمارية التوسعية وإزالتها. 


الإصرار الأميركي على نقل السفارة لا شك له دوافعه، رغم إدراكه المسبق أنه يتعارض مع قرارات الأمم المتحدة بما فيها مجلس الأمن، وأنه لا يحظى بقبول دولي، ما يطرح السؤال بقوة لماذا فعلها ترامب بعد سبعين سنة على قيام المشروع الاستعماري التوسعي الإسرائيلي، وبعد احتلال القدس الشرقية قبل خمسين عاماً، واستنكاف الرؤساء كلينتون وبوش وأوباما على تنفيذ قرار الكونغرس الصادر عام 1995 ؟؟ .

دوافع ترامب
تتقاطع العوامل الأيديولوجية المتزمتة، مع التوجهات الانتخابية الحزبية التنافسية، مع المصالح الشخصية الفئوية الضيقة للرئيس ترامب وفريقه، نحو الحصول على المزيد من فرص الحماية التي يحتاجها الرئيس في معاركه السياسية، وتضاربه مع البلدان الحليفة حول الموقف من الاتفاق النووي مع إيران، وحول المناخ والتجارة الخارجية، وكلفة الحماية الأمنية التي توفرها الولايات المتحدة لأوروبا وبلدان شرق آسيا. 


فالفريق الأميركي الحاكم يعكس التحالف اليميني من المسيحيين الإنجيليين الذين يؤمنون أن فلسطين هي أرض الميعاد، وأن القدس لليهود، وإعادة بناء الهيكل وفي طليعتهم نائب الرئيس بنس والسفيرة هيلي، وبين ثلاثة من اليهود المتعصبين : كوشنير وغرينبلات وفريدمان، إضافة إلى حاجة الرئيس للإعلام والنفوذ اليهودي، في مواجهة الاتهامات المتزايدة عليه بتورطه مع روسيا في سير الإجراءات الانتخابية والتأثير عليها والتي أدت إلى نجاحه في مواجهة كلينتون، ولذلك سعى إلى فعل فاقع لكسب حلفائه وزيادة أفعالهم وانحيازهم لدعمه في مواجهة خصومه الكثر محلياً ودولياً. 

الدوافع الأردنية
ومقابل ما فعله ترامب بشكل فاقع برز الموقف الأردني في مواجهته، رغم العلاقات الدافئة بين عمان وواشنطن، والتحالف الإستراتيجي بينهما، والمساعدات المالية المتزايدة التي تقدمها الولايات المتحدة للأردن، وتكاد واشنطن تنفرد في تقديم هذه المساعدات بعد حجبها من قبل الأشقاء والتقطير من قبل الأوروبيين واليابان. 


والأردن بحكمته لا يقدم على مثل هذا الفعل بدون إدراك لحجم المخاطر المحتملة، في ظل موقف عربي مهزوز مازال يترنح تحت ضربات إرهابية، وحروب بينية خاسرة، وأنظمة فاقدة لشرعيتها، ما يعكس أن العوامل الضاغطة على دفع الأردن لاتخاذ مثل هذا الموقف المتصادم مع الإدارة الأميركية، أقوى من العوامل الطاردة التي تجعل من الأردن غير مبال مثل أغلبية العواصم العربية التي أظهرت عدم ال حماس للتصادم مع إدارة ترامب، سواء في اجتماع وزراء خارجية البلدان العربية الطارئ بطلب من الأردن يوم 10/12/2017 في القاهرة، أو غياب قياداتها عن اجتماع القمة الإسلامي الطارئ أيضاً في اسطنبول يوم 12/12/2017، وانتهاء باجتماع البرلمانيين في الرباط، وصيغة مشروع القرار العربي المقدم إلى مجلس الأمن، رغم ضعفه المتعمد، ولكنه هُزم أمام الفيتو الأميركي .


فالأردن حريص على الحفاظ على شرعية إشرافه ووراثته الدينية والتاريخية والتقليدية على المقدسات الإسلامية والمسيحية في القدس والتي استمدها من الدور الهاشمي منذ الولادة الإسلامية، وقد تجددت رسمياً مع قرار أهل القدس وفلسطين مع وصاية الشريف الحسين بن علي يوم 11 آذار 1924، وتواصلت الرعاية والحفاظ عليها معنوياً ومادياً حتى تم تجديدها بالاتفاق الأردني الفلسطيني الذي وقعه الملك عبد الله مع الرئيس الفلسطيني محمود عباس يوم 30/ آذار /2015، انعكاساً للإحساس بحجم الخطر الداهم على القدس والتصدي لمحاولات تهويدها وأسرلتها، رغم الإقرار الإسرائيلي بالدور الأردني لرعاية المقدسات الإسلامية وفق معاهدة السلام الأردنية الإسرائيلية، ولكن الإحساس الأردني بالقلق نحو المخططات الإسرائيلية بشأن عدم التجاوب مع أي حل للقضية الفلسطينية على أرض فلسطين، والعمل الإسرائيلي الدؤوب لجعل الأرض الفلسطينية طاردة لأهلها وشعبها والبحث عن حلول للقضية الفلسطينية خارج وطنها، وحصيلة هذه السياسة تُشكل خطراً على الأردن باتجاهين؛ الأول التهجير القسري للفلسطينيين خارج وطنهم نحو الأردن، والأخطر من ذلك الحديث عن وطن بديل للفلسطينيين شرق الأردن، ما يدفع الأردن العمل على اتخاذ الإجراءات الاحترازية، والدفاعات الاستباقية، للعمل على بقاء المشكلة الفلسطينية هناك على أرضها وفي مواجهة المستعمرين الإسرائيليين، وقطع الطريق عليهم لنقل المشكلة مرة أخرى خارج فلسطين، فقد نجح الإسرائيليون بعد عام 1948 في رمي القضية الفلسطينية إلى الحضن العربي اللبناني السوري الأردني المصري، وباتت المشكلة عربية ووقع الصدام الفلسطيني مع الأردن وسورية ولبنان بسبب الخلاف على الأولويات والتعارضات الأمنية والسياسية، حتى انفجار الانتفاضة داخل فلسطين، ونجاح الرئيس الراحل ياسر عرفات بإعادة العنوان الفلسطيني من المنفى إلى الوطن، وغدا عنوان الصراع الفلسطيني الإسرائيلي على أرض فلسطين بين الشعب الفلسطيني وعدوه الوطني والقومي والديني الواحد، والشعب الفلسطيني لا عدو له سوى عدو واحد هو إسرائيل التي تحتل أرضه وتصادر حقوقه وتنتهك كرامته. 

ما العمل ؟
ما العمل لمواجهة سياسة الرئيس ترامب الداعمة للمشروع الاستعماري التوسعي، ولسياسات حكومة تل أبيب الاستيطانية التوسعية، دون أي اعتبار لحقوق الفلسطينيين واتفاق أوسلو، ودون أي احترام لمعاهدة السلام الأردنية الإسرائيلية، ووادي عربة، ما يستوجب التوقف لمعالجة الموقف اعتماداً على سياسة واقعية تنأى بنفسها عن الاستسلام لتوجهات إدارة ترامب وعدم التراجع أمامها، والابتعاد كذلك عن التطرف اللفظي غير المفيد، ففي ظل شح الموارد المحلية الوطنية، وضعف تدفق المياه، وانغلاق الأسواق السورية والعراقية، ومنها ومن خلالها إغلاق طُرق الوصول إلى تركيا وأوروبا، وتقليص المساعدات والهبات العربية والدولية باستثناء ما تقدمه الولايات المتحدة، ما يستدعي وضع البرامج والخطوات المحسوبة ومواجهة أي ردود أميركية بما فيها وقف المساعدات المالية، وافتعال الأحداث وخلق حالة من البلبلة، لإرباك القيادة الأردنية، ووضع الخطط والإجراءات المناسبة لمواجهة فرض العزلة على بلادنا كما حصل بعد عام 1991، حينما رفض الراحل الملك حسين الذهاب إلى حفر الباطن، وعدم المشاركة في الحرب التي كانت تستهدف تدمير العراق وجيشه وقدراته وتمزيق نسيجه الوطني.


ولذلك وحتى نحفظ كرامتنا الوطنية ونواصل التمسك بما هو حق لنا ولفلسطين وشعبها، علينا أن نحدد الأولويات، ونضع البرنامج الذي يحفظ أمننا الوطني، لا أن يكون موقفنا مجرد رد فعل يذوي مع الوقت، أو نضعف أمام الضغوط أو الإغراءات.
  h.faraneh@yahoo.com

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد