ربما لم يكن لقرار الرئيس الأميركي دونالد ترامب بشأن الاعتراف ب القدس عاصمة لإسرائيل ونقل السفارة الأميركية من تل أبيب إلى القدس دور في قرار جمهورية الصين الشعبية زيادة حجم تدخلها في القضايا والتعقيدات السياسية الناجمة عن الصراعات في المنطقة وخاصة في ملف الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي، فهذا القرار قد اتخذ سابقاً وتم تأكيده في المؤتمر الأخير للحزب الشيوعي الصيني الذي انعقد في شهر تشرين الأول من هذا العام، حيث أكد تقرير الأمين العام للحزب «شي جين بينغ» وتقرير اللجنة المركزية على الدور الفاعل الذي تلعبه الصين اقتصادياً وسياسياً في عدد من المجموعات الدولية من مجموعة العشرين والبريكس ومنظمة التعاون لآسيا والباسيفيك، ومبادرة التشارك في بناء «الحزام والطريق» للتعاون الدولي وصندوق طريق الحرير، وغيرها بما في ذلك المنظمات الدولية الأخرى بهدف « دفع وإصلاح وبناء نظام الحوكمة العالمية، ودفع عملية بناء علاقات دولية حديثة النمط قائمة على الاحترام المتبادل والإنصاف والعدالة والتعاون والفوز المشترك، ودفع عجلة بناء المجتمع، والمصير المشترك للبشرية، وللتشارك مع شعوب مختلف الدول في العالم في تشييد عالم نظيف وجميل يسوده السلام الدائم والأمن الشامل والرخاء المشترك»، وهذا يعني أن الصين تريد إنهاء الهيمنة الأحادية في النظام الدولي وتحقيق توازن المصالح وزيادة حجم التأثير على مجريات السياسات الدولية بما يحقق مصالحها كقوة عظمى تكبر باستمرار في ظل تراجع دور الولايات المتحدة الأميركية.


لكن القرار الأميركي بدون أدنى شك يشجع الصين وغيرها من الدول والمجموعات الدولية على زيادة مساهمتها في ملف الشرق الأوسط وخاصة روسيا والاتحاد الأوروبي. ولهذا السبب كانت دعوة الصين لوفدين فلسطيني وإسرائيلي لزيارة الصين واللقاء مع المسؤولين الصينيين وفي مقدمتهم وزير الخارجية «وانغ يي» للتعرف أكثر على تفاصيل ملف الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي ومحاولة وضع الخطوط العامة لمبادئ التسوية السياسية التي يمكنها أن تحقق السلام والأمن للجميع وتنهي الصراع.


وكانت زيارة الوفد الفلسطيني ناجحة وفي السياق الصحيح والمناسب من حيث التوقيت والمضمون، فالصين دولة عظمى اقتصادياً وقد طورت من مساهماتها الاقتصادية في المنطقة ولها مشاريع ضخمة في دول عديدة بما فيها إسرائيل، كما زادت من حجم نشر قواتها وقواعدها في البحار والمحيطات، وصار لزاماً عليها أن تعمل على حماية هذه المصالح بمختلف السبل وخاصة في إطار الجهود السياسية والدبلوماسية كونها تتمتع بعلاقات طيبة مع جميع الأطراف ولا تتدخل بشكل سلبي في أي صراع ولا تتورط في حروب ونزاعات مثل غيرها من الدول الكبرى الدولية والإقليمية، وهذا يمنحها أفضلية على دول أخرى تتخذ جانباً معيناً في الحروب والصراعات.


والصين يمكن أن تلعب دوراً أكبر وأكثر تأثيراً بصفتها عضواً دائم العضوية في مجلس الأمن وتلتزم بكل القرارات والمواثيق والمعايير الدولية المتعلقة بحل النزاعات.

وغني عن التعريف موقفها المساند لحقوق شعبنا المشروعة دائماً وأبداً وخاصة حقه في تقرير المصير وإقامة دولته المستقلة على حدود الرابع من حزيران وعاصمتها القدس الشرقية، وهذا الموقف أكده من جديد وزير الخارجية «وانغ يي» والمسؤولون الصينيون الذين التقاهم الوفد الفلسطيني والذين اجتمعوا مع الوفدين، وهو موقف يمثل العدالة الدولية النسبية المبنية على قرارات مجلس الأمن والجمعية العامة للأمم المتحدة التي دعمت الصين جميعها.


الولايات المتحدة انتهجت سياسة جديدة في عهد الرئيس دونالد ترامب تبعدها عن الرعاية الحصرية للعملية السياسية التي كانت سائدة طوال الفترة الماضية منذ مؤتمر مدريد في العام 1991 وحتى بداية هذا الشهر، أي حتى إعلان ترامب السيئ وغير المسبوق حول القدس.


ويبدو أنها ممعنة في هذه السياسة وهذا ما تبدى في تهديدها لدول العالم بعدم التصويت على قرار الجمعية العامة الذي يرفض قرار ترامب والذي «يطالب الجميع بعدم تغيير طابع مدينة القدس الشريف أو مركزها أو تركيبتها الديمغرافية، ويؤكد أن أي قرار ينص على ذلك هو لاغ وباطل وليس له أي أثر قانوني»، تحت طائلة العقوبات.


وهذا التهديد الذي يضاف إليه تهديد آخر بفرض عقوبات على السلطة الفلسطينية يؤكد أن ترامب وإدارته مستمران في تحدي المجتمع الدولي وتجاهل الحقوق الوطنية المشروعة للشعب الفلسطيني.


وبدون قبول الفلسطينيين للوساطة والتدخل الأميركي لا توجد حظوظ لأميركا في لعب أي دور. فالفلسطينيون بالرغم من ضعفهم إلا أنهم يستطيعون أن يقرروا من يمكنه أن يلعب دوراً سياسياً في حل الصراع.


وقد لا يملكون فرض موقف على إسرائيل التي هي الأخرى لها فرصة تقرير من تريد له أن يكون مشاركاً في العملية السياسية.


إلا أن المجتمع الدولي يستطيع التأثير على مواقف جميع الأطراف إذا ما أراد ذلك.


تراجع دور واشنطن كراعِ حصري للعملية السياسية يفسح المجال أمام لاعبين دوليين لملء الفراغ وتحقيق التوازن المطلوب في العملية السياسية. وهنا تبدو الفرصة مواتية أكثر للدول العظمى ومن بينها الصين والمجموعات الدولية كالاتحاد الأوروبي للمساهمة بدور أكبر.


ولكن ينبغي ألا نخطئ بأهمية الدور الأميركي، فلا توجد عملية سياسية يمكن أن تقبل بها إسرائيل بدون أميركا، وما يجب أن نعمل عليه هو وضع ملف القضية تحت رعاية دولية متوازنة تكون الولايات المتحدة طرفاً فيه وليست الطرف الوحيد المقرر، ويجب أن تستند العملية السياسية إذا ما تم إحياؤها إلى الشرعية الدولية وليس إلى أي مشروع ينفرد به طرف بناءً على رغباته أو انحيازاته.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد