حذرت الولايات المتحدة الأمريكية الدول التي تتلقى مساعدات منها بأنها ستتوقف عن ذلك إذا صوتت هذه الدول بنعم لمشروع القرار الذي يطالب بإلغاء قرار الرئيس ترامب بخصوص القدس ، تندرج التحذيرات الأمريكية ضمن ما يسمى بتسييس المساعدات و توظيفها لخدمة الدول "المانحة"، و استلاب الدول المتلقية لإرادتها و استقلالية قرارها تحت ضغط التلويح بوقف المساعدات و المنح و غيرها من أشكال التمويل الدولي.
ليس من السهل تحديد العلاقة المالية بين دول الشمال الغني و دول الجنوب الفقير بسبب تعدد العوامل المتداخلة في تشكيلها و بسبب تعدد القنوات التي تمر بها الأموال في الاتجاهين و كذلك التداخل بين الأموال التي تتحرك بشكل شرعي و تلك التي تتحرك بشكل غير شرعي بين المنطقتين، و كذلك بسبب أن الكثير من الدول و المؤسسات المالية الدولية ليس من مصلحتها الإعلان بشكل شفاف عن كم و شكل التدفقات المالية بين الشمال و الجنوب كما درجت التسمية.
تقدر الكثير من الدراسات الدولية المرموقة حجم الأموال التي تلقتها دول الجنوب حوالي (1300) مليار دولار في العام 2012، منها(125) مليار فقط كمساعدات و قروض طويلة المدى و هبات إنسانية و الباقي حصلت عليه دول الجنوب الفقير لفظا الذري حقيقة، مقابل صادرات سلعية و تحويلات أبنائها العاملون في الخارج، في حين تلقت دول الشمال في ذات العام (3,300) مليار دولار. أي أن الدول الفقيرة قد ضخت (2000) مليار أكثر مما تلقوه.
تقدر هذه الدراسات أن صافي التدفقات المالية بين الشمال و الجنوب منذ العام 1980 و حتى العام 2012 بحوالي (,00016) مليار دولار لصالح الأخيرة و هو ما يوازي إجمالي الدخل المحلي الأمريكي. كذلك أكدت هذه الدراسات أن الدول الغنية قد تقاضت حوالي(4,200) مليار دولار فوائد على ديونها لدول الجنوب .
أهم مصادر الأموال المتحركة من الجنوب إلى الشمال هي أرباح الشركات الدولية التي تعمل في دول الجنوب كشركات التنقيب عن النفط و الغاز و المعادن الثمينة و شركات بناء البنية التحتية و الكباري و محطات تحلية المياه و شبكات الكهرباء و غيرها من المشاريع الضخمة التي لا تقوى عليها دول الجنوب و لا تمتلك الخبرة المطلوبة لتصميمها و تنفيذها.
من الجدير ذكره هنا أن هذه الشركات الشمالية تستفيد بشكل كبير من قوانين تشجيع الاستثمار المعمول بها في الدول الفقيرة و والتي تمنح هذه الشركات إعفاء كاملا من دفع الضرائب. الكثير من هذه الشركات الدولية تسجل نفسها في مناطق يطلق عليها " ملاذات ضريبية" حيث تحصل على صفة "مستثمر أجنبي" بما يعفيها من دفع الضرائب سواء لبلدانها الأصلية أو للحكومات المحلية .
الكثير من الشركات العاملة في الوطن العربي و فلسطين هي شركات مملوكة لمستثمرون محليون لكن سجلوا شركاتهم في بعض دول إفريقيا و بعض مناطق "الملاذات الضريبية" كي تتمتع بصفة " مستثمر أجنبي" مما يعفيها من دفع الضرائب محليا و في مناطق تسجيلها بالطبع .
يذكر أن الدول المانحة قد تعهدت منذ العام 1970 خلال المؤتمرات الدولية المتعاقبة والتي تناقش علاقة الشمال بالجنوب بالمساهمة بنسبة "0.7%" من إجمالي الناتج المحلي الإجمالي لمساعدة الدول الفقيرة ، إلا أن هذه النسبة في الواقع لم تتجاوز "0.4%" في المتوسط مع تفاوت في مدى التزام الدول.
ففي حين تساهم كل من النرويج و السويد و لوكسمبورج بحوالي 1% من إجمالي الدخل المحلي و هو ما يزيد عن التعهدات ، بلغت مساهمة الولايات المتحدة "% 0.2" اليابان"0,23 %" ألمانيا "%0.35" هولندا و فرنسا 0.4% وهو أقل بكثير مما تعهدت به مع الأخذ في الاعتبار الفروقات الهائلة في أحجام اقتصاديات هذه الدول.
شكل آخر من دعم الجنوب للشمال هو الاستثمار المباشر FDI. حيث تقوم الحكومات و الأفراد في دول الجنوب بإستثمار مبالغ مهولة في أسواق الدول المتقدمة في بحثها عن الاستقرار و سيادة القانون و هي أسس مفقودة في بلدان الجنوب و من ضمنها الوطن العربي.
لا يوجد معلومات كافية و ودقيقة عن حجم الاستثمارات العربية بالخارج شأنها شأن الكثير من المعلومات الأساسية حيث تحرص حكومات الدول التي تفتقر للمناخ الديمقراطي و الشفافية على إبقاء هذه الاستثمارات سرية تماما .
كذلك فإن بعض هذه الاستثمارات يكون مسجلا بأسماء أبناء العائلات الحاكمة و المتنفذين ، مما يضيف صعوبة أخرى على عملية جردها و مراقبتها حيث لا يمكن الفصل بين استثمارات الدولة و تلك المسجلة أو المملوكة لإفراد من الطبقة الحاكمة. لكن تقرير لمحطة CNN الأمريكية في أكتوبر 2016 قدر الاستثمارات السعودية فقط في أمريكا بحوالي (1000) مليار دولار.
يقدر مجلس الوحدة الاقتصادية العربية حجم الاستثمارات العربية في العالم بـ(2400) مليار، و في ظني أن هذا الرقم متواضع جدا مقارنة بالواقع. تقدر حجم الاستثمارات العربية المتجه للخارج سنويا بعشرات مليارات الدولارات حيث يخرج 15مليار من دولة الإمارات و 10 مليار دولار من السعودية و 8 مليار من قطر سنويا . في حين حصل الوطن العربي كله على ما نسبته .81% فقط في العام 2016 من حجم الاستثمار الدولي الذي يسافر حول العالم و الذي يقدر بــ (1770) مليار سنويا، وهي حصة قليلة جدا نظرا لحالة عدم الاستقرار و فقدان اليقين و غياب الديمقراطية و أسس الشفافية و هي عوامل لابد منها لجذب الاستثمارات الأجنبية .
شكل آخر لا يقل أهمية هو أن العالم الغربي يعتبر ملاذ آمن لأموال الحكام و المتنفذين الفاسدين حيث ينهبون ثروات بلدانهم و يودعونها في بنوك البلاد الغربية بعيدا عن الرقابة المحلية و ادخارا لمستقبلهم في حال أزيحوا عن الحكم. و قد حاولت دول عديدة، عربية و غير عربية بعد سقوط أنظمة الحكم فيها استرجاع هذا الأموال أو بعضها لكن دون جدوى.
إضافة لما سبق هناك مئات ملاين وربما بليرات الدولارات، التي تنفقها دول الجنوب سنويا لشراء واقتناء آلاف السلع، بدء من السلاح ومروراً بالسيارات والقطارات والملابس والأخشاب وانتهاء بمساحيق التجميل والعطور والأجبان.
الخلاصة هي أن دول الجنوب المفقر هو من يمول الشمال و ليس العكس، وأن الدكتاتورية و عدم الاستقرار في الشرق الأوسط و أفريقيا يصب في صالح الغرب بشكل جلي. الجنوب ليس فقيرا فعلا بل هو مستلب الثروة و معظم ما يطلق عليها بالدول المانحة لا تستحق هذه التسمية.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية