لبنان ربما كان الدولة الوحيدة عربياً وعالمياً التي لم يجر فيها إحصاء عام للسكان منذ العام 1932، حين أجرى الانتداب الفرنسي تعداداً للبلد، وبعدها توقف التعداد حتى يومنا هذا، ربما لخصوصية لبنان وتعدد طوائفه الدينية. 


وفي ظل تركيبة سياسية متوافق عليها، فمن الصعب أن تظهر الأرقام الحقيقية لعدد السكان، حتى لا يكون ذلك ذريعة لقلب التوافق على توزيع الحقائب والامتيازات السياسية والاقتصادية في بلد أصبح الاستقرار فيها أمراً استثنائياً.


الصمت المخيم على التوزيع الديمغرافي والعدد الحقيقي للبنانيين رافقه طوال عقود طويلة أي منذ العام 1948، رفع فزّاعة اللاجئين الفلسطينيين وإخلالهم بالتوازن الديمغرافي وخطر التوطين وما إلى ذلك من مصطلحات كانت توضع في بنوك الأحزاب اللبنانية لاستخدامها في أوقات الأزمات.


جرى تضخيم أعداد اللاجئين الفلسطينيين في لبنان عمداً وعن سوء نوايا على أساس أنهم يمثلون مذهباً معيناً وأنهم ينتمون إلى طائفة معينة، وبالتالي فإن هذا الأمر يخلّ بالتوازن الديمغرافي اللبناني، ويعمل على تقوية طائفة على باقي الطوائف.


ولهذا السبب، فإن الأحزاب اللبنانية عندما كانت تضخّم أعداد اللاجئين الفلسطينيين بشكل كبير فإنها كانت تحاول الإبقاء على مكتسباتها، لأنها تعلم علم اليقين أن المشكلة الأساسية ليست في عدد اللاجئين الفلسطينيين بقدر ما هي مشكلة داخلية لبنانية، فلبنان ربما الدولة الوحيدة في العالم التي لا تقيم نظاماً ديمقراطياً مبنياً على حق التصويت الفردي للمواطن، ولو حصل هذا فربما غابت أحزاب وكتل سياسية من المشهد اللبناني منذ سنوات طويلة أو على الأقل لكانت أضعف بكثير مما هي عليه.


ومن خلال جهد مشكور لجهاز الإحصاء المركزي الفلسطيني ولجنة الحوار اللبناني الفلسطيني وإدارة الإحصاء المركزي بلبنان، بذل على مدار أكثر من سنة ووظف خلاله المئات، تم إجراء تعداد سكاني للاجئين الفلسطينيين الذين يعيشون في 12 مخيماً تديره وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين، إضافة إلى أكثر من 156 تجمعاً يوجد فيه لاجئون فلسطينيون. 


المفاجأة كانت أكبر من التوقعات، فعدد اللاجئين الفلسطينيين ليس نصف مليون وليس 800 ألف كما كانت تدّعي بعض الأحزاب اللبنانية.. فقط 174,422 لاجئاً فلسطينياً في لبنان، وهو أقل بكثير حتى من نصف الرقم الأدنى الذي كانت تتداوله وسائل الإعلام اللبنانية سابقاً.


ومن المفاجآت في هذا التعداد التغير في التركيبة الديمغرافية للسكان في المخيمات، حيث يزيد عدد غير الفلسطينيين على عدد اللاجئين الفلسطينيين في بعض المخيمات ومنها مخيم شاتيلا الذي وقعت فيه المجزرة على يد الاحتلال الإسرائيلي وعملائه من اللبنانيين، وتشير الإحصائيات إلى أن 57,7% من سكان شاتيلا هم من النازحين السوريين وعائلات لبنانية وأن نسبة اللاجئين الفلسطينيين في شاتيلا هي 29,7% كما أن نسبة غير الفلسطينيين في مخيم برج البراجنة هي الأعلى وبلغت نحو 47,9%. 


الأحوال المعيشية للاجئين الفلسطينيين صعبة جداً ومعقّدة.. بعكس دول اللجوء الأخرى.. وربما استخدمت فزّاعة الأعداد سابقاً من أجل الضغط على الفلسطينيين في لبنان وهذا ما حصل، خاصة أن إحصائيات وكالة الغوث الرسمية تشير إلى أن 450 ألف لاجئ فلسطيني مسجل لديها في لبنان، بمعنى أن نحو ثلثي اللاجئين الفلسطينيين اضطروا إلى الهجرة إلى بلدان العالم هرباً من حالة الاستعباد والرفض والضغط التي كانوا يواجهونها هناك.


البيانات الإحصائية تشير إلى ارتفاع كبير في نسبة البطالة، وخاصة فئة الشباب، حيث بلغت نسبة البطالة في الفئة العمرية من 15 ـ 19 سنة 43,7% وفي الفئة من 20 ـ 29 سنة 28,5%. علماً أنه منذ العام 2005 يحظر على اللاجئين الفلسطينيين العمل في أكثر من 70 مهنة، حتى من وجد وظيفة «كنّاس» أو «عتّال»، فهو بحاجة إلى رخصة بشروط صعبة ورسوم عالية.


الأرقام أعلنت، أول من أمس، بحضور رئيس الحكومة اللبنانية سعد الحريري الذي أكد أن الإحصاء يُعدّ إنجازاً في ظل تضارب الأرقام وتعدُّد المصادر، داعياً إلى إعادة النظر في أحوال اللاجئين الفلسطينيين بعد أن أصبحت الصورة واضحة والحقيقة ظاهرة.


اليوم خرجت لعبة عدد الفلسطينيين من أيدي المدّعين وأولئك الذين استخدموها طوال عقود للحفاظ على مصالحهم الشخصية والفئوية، بصرف النظر عمّا تسبّبوا به من مآس لكثير من العائلات الفلسطينية في لبنان التي اضطرت إلى ركوب أمواج البحار هرباً من واقع مؤلم ربما إلى فضاء دولي أكثر حرية وأرحم من نار «الشقيق»! 

abnajjarquds@gmail.com

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد