بعد ان شاهد ترامب وزميله نتنياهو ردة الفعل التي ما زالت تتوالى (وربما أننا لسنا الا في مرحلة البداية منها)، وبعد ان وقفت الشعوب العربية كلها والعالم المتحضر والملايين في العالمين العربي والإسلامي هذا الموقف الذي وجه لها صفعة لم تكن على البال ولا على الخاطر- كما يبدو -، وبعد ان تحققت لهما عزلة لم نكن لنحلم بها، وبعد ما حصدوا من الخزي ما حصدوه حتى الآن، علينا ان نمعن النظر في قصة الاعتراف ب القدس عاصمة لإسرائيل ونقل السفارة الأميركية اليها.
كما تابعنا عشرات ومئات التحليلات السياسية التي حاولت ان «تفسّر» الحدث باعتباره حدثاً خطيراً يغير في قواعد اللعبة ويتجاوز القانون الدولي ويدير الظهر بالكامل لأسس عملية السلام (اي عملية سلام مهما كانت) ويستبق كل اتفاق مستقبلي ويقضي عليه سلفاً وبصورة نهائية. وكلنا تابعنا بواعث هذا الحدث ان كان لجهة الأزمات الداخلية للرجلين معاً ومقدار الاستهتار والتعالي الذي وصلا اليه بالتنسيق او بدونه.
لكن شيئاً واحدا لم يحظ بالاهتمام المطلوب في تفسير الحدث.
هذا الشيء هو الجهل المطبق بتاريخ القضية الوطنية الفلسطينية وموقف الشعب الفلسطيني على مدى قرن كامل من الكفاح الوطني الشجاع.
إنا نحن الناس (واعوذ بالله من كلمة انا) الذين آمنوا دائماً ان الشعب الفلسطيني هو احد اهم شعوب الأرض وربما يكون واحداً من الشعوب القليلة في هذا العالم الذي له هذه القدرة على الاستمرار والصمود والمجابهة والخروج دائماً من بين الرماد.
وعندما سألت الشاعر محمود درويش مرة حين التقيته مصادفة على الجسر اثناء العودة من عمان هذا السؤال: ايكون حقاً هذا الشعب كالعنقاء؟؟
التفت في عيني لبرهة ليست قصيرة ... وأجاب:
مع فارق ان الشعب الفلسطيني خرج فعلاً من الرماد مرات ومرات، اما في الاسطورة فالمعنى ربما في المجاز فقط ...!! قصد الشاعر الكبير الذي كان يقدم أعمق الأفكار السياسية من خلال الشعر والذي كان يقدم أجمل الأشعار وارقها واعذبها وهو يعبر من فكرة سياسية، اننا (اي الشعب الفلسطيني) ربما نكون قد تفوقنا على الأسطورة نفسها.
ترامب لا يعرف ذلك ولا يوجد لدى ترامب من يذكر له شيئاً عن هذا.
أما نتنياهو فهو يعرف ولكنه مقتنع ان اسرائيل قادرة بعوامل الكذب والقوة على قهر هذا الشعب وإخضاعه..!!
أراهن ان الرئيس ترامب لم يقرأ في حياته كلها عشرة كتب جادة - مهما كانت متحيزة - واراهن ان نتنياهو لم يقرأ كتابا واحدا عن كفاح الشعب العربي الفلسطيني وتشبثه بأرضه ووطنه وتاريخه وهويته.
ليس من شيم الرئيس ترامب ان يعرف، وليس لدى نتنياهو اية رغبة بأن يعرف.
لا اقصد ان كل يميني او حتى يميني متطرف لا يعرف شيئاً عن الشعب الفلسطيني، على العكس من ذلك، هناك من اليمينيين لم يعرفوا اكثر بكثير مما نتصور، وهناك من هم متخصصون في تاريخ المنطقة، لكن قناعاتهم راسخة بمشروعهم الصهيوني المتطرف، ولا اقصد ابداً ان رجالات الإدارة الأميركية هم على شاكلة ترامب، اذ نعرف جيدا ان بعضهم على درجة عالية من الثقافة والمعرفة مثل الرئيس اوباما وكلينتون وبوش الأب وايزينهاور وغيرهم وغيرهم، وإنما ما اقصده هو ان العمى الايدلوجي والخفة والضحالة الفكرية والسياسية والغطرسة والتعنت يمكن ان تقود اصحابها الى ما هو ابعد بكثير مما يظنون في لحظة معينة.
لم ينفع مع الشعب الفلسطيني كل ما قامت به بريطانيا العظمى من دعم للمشروع الصهيوني، ولم يقدم ويؤخر معهم استلام الراية من قبل الولايات المتحدة (لاحظوا اننا نتحدث عن اكبر قوتين في التاريخ الحديث للبشرية) ثم لم ينفع معه كل المساعدات الانمائية ولا التكنولوجية، ولم يستسلم الشعب الفلسطيني امام الجيش الرابع في العالم (الجيش الاسرائيلي) ولا امام اكبر تنظيم عالمي سياسي في تاريخ البشرية الحديث (الصهيونية العالمية).
الفلسطينيون لم يهتز إيمانهم بوطنهم عندما اقتلعوا وشردوا وعندما مورست ضدهم كل أشكال التصفية والإبادة والتطهير العرقي، وعندما لوحقوا في هويتهم وطوردوا لمجرد انهم كانوا متمسكين ولو سراً بحقهم بالكفاح من اجل عودتهم، وفرضت عليهم كل أنواع الوصاية والإلحاق وحيكت ضدهم كل أنواع الدسائس والمؤامرات والملاحقات، واخرجوا من كل الساحات إما بالقوة المادية او بالإكراه المعنوي، ومع ذلك ماذا كانت النتيجة؟؟؟
هل ضاع الشعب الفلسطيني او تاه؟ ام انه أعاد ترتيب بيته وفرض نفسه كحقيقة سياسية كبرى في هذا العالم، وعاد ليقاتل بكل الوسائل المتاحة على كل زيتونه، وعلى كل شبر وعلى كل منطقة في كل مدينة وقرية وخيمة!!؟
هل ذاب الفلسطيني في إسرائيل، ونسي الفلسطيني في لبنان، او استكان في الضفة والقطاع او تهود في القدس ام ان العكس تماماً هو الصحيح؟؟؟
هل كلّ او ملّ هذا الشعب من تقديم التضحيات، ام انه يقدم لنا في كل يوم درساً جديدا ومتجدداً في البذل والعطاء والوعي والقدرة على اختراع المعجزات!!
المسألة تكمن في ان هذا الشعب هو صانع الخوارق وهو القوة التي لا تهزم، وهو الجيش الذي لا يقهر، وهو العقل المدبر، وصاحب اليد الطولى.
إنه الحارس والفارس، وأما خيوله فعربية أصيلة، وهو يسابق الريح اذا لزم الأمر.
الأبعد من حماقة ترامب والاكبر منها هو انه وكل أترابه وأقرانه وزملائه وأصحابه لا يعرفون الشعب الفلسطيني بعد، ولا يعرفون قوته وبأسه في اللحظات التي يستشعر فيها الخطر.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية