كان ذلك صباحاً عادياً بامتياز، حيث توجهنا إلى مدارسنا كما كنا نفعل كل يوم. في الليلة الفائتة نام المخيم على وقع الرصاص وحمّى الاشتباكات بين الناس والجيش عقب قيام مستوطن بدهس مجموعة من العمال من البلدة المجاورة. 


خلال دفن الشهداء انقلبت الدنيا وفشل الجيش في كبت غضب الجموع المشيعة. صحونا كأن ثمة شيئا ظل عالقاً من الليلة الفائتة. 


خرج المخيم (جباليا) على بكرة أبيه كأنه يكمل ما تم الليلة الفائتة. مدرس التاريخ في المدرسة الإعدادية يحرضنا على الخروج، والهتافات تملأ شارع المدارس الطويل حيث تصطف مدارس وكالة الغوث للذكور، والغضب يهز المكان. 


يومها استشهد حاتم السيسي جارنا ورفيق الطفولة وهو يلقي الحجارة على الجيش. في أماسي المخيم كنا نلعب الكرة ونلهو بين الأزقة بحثاً عن سعادة مفقودة في جحيم الحياة. 


السعادة الممكنة في تلك الحياة المعلقة. سقط حاتم في ساحة المخيم الأساسية التي كنا نسميها "السوافي" وكانت عبارة عن كثبان رملية صغيرة بجوار بركة أبو راشد وماتور الماء.

للأسف هذه الساحة تحولت إلى مستشفى يقولون اسمه "اليمن السعيد" لم يكتمل بناؤه إلى اليوم، وكان يجب أن تترك حديقة أو ساحة للناس. الانقسام مرة أخرى يا سادة!! 


سيفرض الجيش منع التجول على المخيم. المنع الذي لن يوقف لهيب النار التي اندلعت في مساء اليوم ذاته في كل المخيمات والمدن والقرى والنواحي، ثم اكتشفنا أن ما نقوم به بات اسمه انتفاضة، وأن هذا الشيء بات فعلاً يومياً في النضال الشعبي، وسيأخذ أشكالاً متعددة. 


ومع الوقت سنتبارى من يصل حجره أولاً للجيش، وسيصاب منا من يصاب، ويسجن من يسجن، وحين ندخل سجن النقب الصحراوي نتشاطر الذكريات واللحظات الماضية بشغف العشاق الذين يستعيدون ماضيهم. 


وسيظل اسم صديقنا وابن حارتنا حاتم السيسي أول شهيد في الانتفاضة، وسنظل كل عام نتذكره بقلق الأطفال والفتيان وهم يبحثون عن حاجاتهم الضائعة، وستظل صورته ذاتها – الصورة اليتيمة - بشاربه الذي بالكاد بدأ ينمو وعينيه الوادعتين ونظراته الحالمة تذكرنا بما كنا عليه قبل ثلاثين عاماً. 


كان هذا صباح التاسع من كانون الأول من العام 1987. أي قبل ثلاثين سنة من الآن. 


هبات كثيرة وقعت قبل ذلك، تدهورت فيها الأمور وصعد فيها الشهداء ووقع الجرحى ضحايا البطش؛ منها مثلاً ما حدث العام 1986 وقبل ذلك المواجهات حامية الوطيس التي أعقبت استشهاد شرف الطيبي في جامعة بيرزيت ، يومها خرج المخيم غاضباً ساخطاً مثل بقية مناطق الضفة الغربية وقطاع غزة


أذكر يومها استشهد الطفل سهيل غبن من مدرستنا وقام عمه الفنان الكبير فتحي غبن برسم جنازته الحاشدة في أزقة المخيم. 


وخلال ذلك وقبله كانت غزة والضفة بركانا يفور بين فترة وأخرى لعل أشدها قبل ذلك في فترة السبعينيات حين كان الفدائيون يحكمون غزة في الليل، وكانت ثمة أساطير كبيرة في عالم الفعل المقاوم من جيفارا غزة وباجس أبو عطوان وجملة الشهداء والأسرى الذين حملوا لواء الذود عن كرامة الناس وحلمهم بالعودة والاستقلال. 


لكنها لم تكن ربما إلا بروفات للهبة الكبرى التي ستصبح واحدة من أكثر لحظات التاريخ الوطني المعاصر أهمية. 


قال فيها درويش وقباني والقاسم ووصف فيها الكتاب والروائيون واستعادتها الكاميرا والأفلام وريشة الفنانين، لكنها ظلت خالدة أكثر في ثقافة الناس وممارستهم الكفاحية. 


ثمة سر عجيب في الانتفاضة لابد من فهمه حتى نفهم كيف خلدت تلك اللحظة ولم تكن عابرة في الوعي والممارسة. 


حتى حين اندلعت انتفاضة الأقصى لم تشبه بشيء الانتفاضة الأولى، وحين نقول انتفاضة دون أي صفة فنحن نشير إلى الانتفاضة الأولى أما الصفات فتأتي للتمييز. 


عموماً ونحن نتذكر تلك الأيام، ربما وبشكل شخصي حيث إن الانتفاضة تمت في مخيمنا وشارعنا ومدارسنا، وكان لها منا ومن أحبتنا نصيب، لابد من الوقوف بتأمل أمام روح اللحظة التي شكلتها الانتفاضة. 


وربما حين يحاول الساسة الحديث عن الانتفاضة ووصفها بما يجود به لسان العرب من أوصاف عليهم أن يعملوا لا على استعادة الفعل ذاته فقط، لأن تكرار الأشياء لا يقود إلى نفس النتائج في السياسة (في الكيمياء ربما) عليهم التركيز على استعادة روح اللحظة. 


فالانتفاضة لم تكن رمي الحجارة، ولم تكن مقاطعة البضاعة، ولا مقاطعة الهويات وبطاقات الممغنط ولا الإضراب، بل كانت تلك الروح العظيمة الشفافة التي تحيك وتصوغ اللحمة الوطنية وفعل الاشتباك اليومي. الانتفاضة جعلت الشعب كله مقاومة ولم تترك لأحد أن يزعم أو يحاول احتكار المقاومة كما يطيب للبعض أن يفعل الآن. 


حتى على صعيد القيادة وأنماط تمظهرها فإن الانتفاضة تقدم درساً ثميناً، فقد ارتكزت الانتفاضة على القيادة الميدانية اليومية والمحلية، ففور توجيه الاحتلال ضربة لقيادة الانتفاضة في المنطقة تقوم مجموعة من الشبان بتشكيل نفسها قيادة جديدة (مبادرة وارتجال ذاتي) وتباشر قيادة العمل الكفاحي اليومي. 


وفي مرات يأتي التكليف لاحقاً من القيادة لأن الانتفاضة يجب أن تستمر، فالانتفاضة بقدر ما صاغت شمولية الفعل الكفاحي إلا أنها رسخت محلية صياغة الأهداف والمطالب النضالية.


فثمة إضراب شامل في كل فلسطين وهناك ربما إضراب خاص في مخيم ما ومدينة وقرية ما بسبب ما يجري فيها. 


قيادة الانتفاضة كانت قيادة الفعل لا قيادة التوجيهات. الآن يقودنا الناطقون وعشاق الكاميرات والمؤتمرات الصحافية. 


في تذكر الانتفاضة هناك الكثير الذي يجب تعلمه، بعيداً عن حماس ة الأكاديميين والمؤتمرات البحثية التي لا تنتج إلا أفكاراً لو عرضت على أطفال الحجارة وجرحاها وشهدائها لتبرؤوا منها وشعروا فيها بفلسفة زائدة، وبعيداً عن وهج أدعياء التملك والمبادأة واحتكار الرواية التي لم يكونوا جزءاً منها، فتذكر الانتفاضة يتطلب استعادة تلك الروح التي جعلت من كل الشعب جسماً واحداً وطفلاً واحداً يرمي حجراً على المحتل ويصيح بصوت واحد طلباً للحرية. 


وإلى جانب كل ذلك علينا تذكر كل أولئك العظماء الذين ارتقوا وهم ينسجون حكاية الانتفاضة، أو أولئك الذين ذوت شمعات عمرهم خلف القضبان وهم يحمون لهباً من الانطفاء. لهم التحية الحقيقية.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد