أفرز الانقسام الفلسطيني مصطلحاته الخاصة التي أثرت قاموس المصطلحات السياسية الفلسطينية، وعلى هذا المنوال سار قطار المصالحة فأفرز مصطلحاته الخاصة، ويبدو أن عدوى الإطالة من زمن الخصام قد انتقل إلى زمن الوئام إذا ما قُدِر له الاستمرار، فوّظفت المصطلحات لإدارة عملية المصالحة واستدامتها كما وُظّفت في الزمن الغابر. ومن هذه المصطلحات العجيبة والمفاهيم الغريبة مصطلح (التمكين) ليكون أول المصطلحات التي نفث شيطان المصالحة في روع جوقة الردح السياسي لفنون الانحطاط الوطني سمومه، وليكون أول المفاهيم التي سوّلت الأنفس الأمّارة بالسوء لأصحابها شراً؛ ولما لهذا المصطلح من أهمية في المسيرة اللاوطنية كان من الضروري أن يأخذ مصطلح التمكين نصيبه من التبيين، ولما لهذا المفهوم من مضمون غير معلوم كان من المفيد توضيح الأسرار الخفية لمعاني التمكين المخفية.
التمكين – أيها السادة المبجلين – يقترب معناه من التمتين، وغير بعيدٍ عن إقامة حكم الدين، كما ورد في القرآن الكريم، وعند أهل اللغة المتبحرين، يُقال: مَكّنَ له الشيء بمعنى جعل عليه سلطاناً وقدرةً، ومَكّنَ فلاناً من الشيء يعني أمكنه منه وقدر عليه. ويشترك في هذه المعاني معنى التمكين الاصطلاحي، الذي يشير إلى معاني التمتين والتقوية والقدرة والاستطاعة، فنقول تمكين الشعب أو المرأة أو العاملين أو الشباب بمعنى تقويتهم وتمتينهم ليأخذوا حقوقهم وليتحكموا في مسار حياتهم وليشاركوا في صنع مستقبلهم. أما مصطلح (تمكين الحكومة) فهو مصطلح جديد – على حد علم الكاتب – ابتكره بعض أهل الشقاق من الضالعين بطرق الافتراق، والمتمرسين بأساليب تخريب الوفاق، في مرحلة المصالحة التي تبعت مرحلة المناكفة، ولزيادة الطين بلة، أن أُضيف لمنشار التمكين العُقدة، فتنوّعت أنواعه واختلفت أشكاله، فحار العُقّال في معرفة الفروق بين أنواع التمكين الفعّال.
ومن العجب العجيب والنادر الغريب أن يزعم أحد الأحمدين ويشاركه في الرأي أحد الشيخين، أن في التمكين فائدتين: الأولى أنه يُبعد المكروه عن الثقلين، والثانية أنه يُقّرب المسافة بين الخصمين، في الوطن الواحد ذي الإقليمين – وفي كل الأحوال مهما كان نوع التمكين الفعّال، وكيفما كان شكل التمكين المطلوب، فقد اتضح لكل ذي عقلٍ غير معطوب، أن التمكين يختلف عن التسليم، بخلاف ما اعتقد بعض أهل غزة المُعاقبين، من بسطاء الناس المقهورين أو البؤساء المكلومين أو التعساء المُعذبين، فقد ظهر أن الفرق بينهما دقيق، وفي نفس الوقت عميق، وربما أكثر عمقاً من جرح أهل غزة أجمعين، بل ويزيد عمقاً وأهمية من قضية فلسطين؛ ذلك بأن مفهوم التسليم لا يعني أكثر من حل اللجنة الإدارية، واستلام المكاتب الوزارية، وتفعيل الصلاحيات الإدارية، وإدارة المعابر الحدودية. وقد تم ذلك بالفعل أو في طريقه إلى الفعل. بخلاف مفهوم التمكين الذي لا يعرف معناه إلاّ الراسخون في السلطة من أصحاب القرار والسادة الأحرار وأولى الشرف والفخار من أهل التمكين الذي أزالوا الغشاوة عن عيوننا فوضحوا لنا المعنى المرغوب من وراء التمكين المحبوب.
ذهب بعد أهل التمكين بأن التمكين لا يكون دقيقاً أو عميقاً إلاّ بتمكين الحكومة في غزة كما هو الحال في الضفة، مع العلم أن الحال في الضفة معروف، وقد يكون أكثر من مكشوف، فالحكومة تُمارس التمكين وتتقلّب في نعمة التمتين، جنباً إلى جنب مع وجود الاحتلال المكين والاستيطان المتين ، ولا يضرها أن كانت منقوصة السيادة أو مسلوبة الإرادة، طالما أنها تتمرغ في نعمتي التمتين والتمكين اللذين هما حق الحكومة على المواطنين.
وذهب بعض أهل التمكين بأن التمكين لا يكون كاملاً أو وافياً إلاّ بتوحيد السلاح فيتبعه تسريح المقاومين من أهل الكفاح، وامتلاك قرار السلام وإشعال فتيل السلاح. وهذا يعني بصراحة وبشيءٍ من الوقاحة أن تُترك مدن وقرى ومخيمات غزة وكل الوطن المُحتَل، تحت رحمة العدو المُحتَل؛ ليستبيحها متى أراد وكيفما حل، كما يعني نزع أحد أهم عوامل القوة من الشعب الأشم، التي لم يتخلَ عنها شعبٌ إلاّ ذل.
وذهب بعض أهل التمكين بأن التمكين لا يكون فاعلاً أو عاملاً إلاّ بعد أن يتم تسريح موظفي غزة عاجلاً أو آجلاً، ثم إعادتهم إلى بيوتهم، وإغلاق عليهم باب دورهم، ليتسنى لموظفي السلطة القُدامى أخذ دورهم؛ وهذا مُخالف لاتفاقية المصالحة الوطنية، ومناقض لمفهوم الشراكة الوطنية، ولمبدأ دمج الموظفين القُدامى والحاليين، ولا ينسجم مع روح الوحدة والوفاق، بل يُعيد زمن الفرقة والشقاق.
فإن كان هذا هو التمكين المطلوب فبئس التمكين وليذهب إلى الجحيم، والمشكلة الأساسية ليس في تمكين الحكومة، بل في تمكين الشعب الفلسطيني فوق أرضه ودعم صموده عليها، وتمكين المقاومة الفلسطينية في كل فلسطين لتدافع عن شعبها وتعيد الحقوق إلى أصحابها، وتمكين الشعب الفلسطيني في غزة، من الحياة الحرة الكريمة بعزة، وأول خطوات التمكين تبدأ برفع العقوبات عنه من الذين يزعمون تمثيله والنطق باسمه.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية