مُحِقّ التساؤل الذي لا يزال يُخيِّم على مشاعر الفلسطينيين بشأن المصالحة الوطنية، إذ ما تكاد تظهر بعض البوادر الإيجابية الواعدة، حتى يظهر نقيضها، خصوصاً وأن أهل غزة المكتوين أكثر من غيرهم بآثار وآثام الانقسام، لم يلمسوا رغم مرور أكثر من شهر على حوار القاهرة الأوّل، أي تبدل على مشكلاتهم وهمومهم. اتجاهات الرأي العام بدأت تميل أكثر فأكثر نحو التشاؤم بسبب الاشتباك الإعلامي بين حركتي فتح و حماس ، بعد الجولة الأخيرة من الحوار الوطني الذي جرى في الثاني والعشرين من هذا الشهر.


في الأصل، فإن بيان رفع العتب الذي صدر عن حوار الفصائل بعد يومين من الحوار، كان قد خلق حالة من الغضب، والقلق لدى الفلسطينيين الذين انتظروا من ذلك الاجتماع والحوار مخرجات تعزز الثقة بإمكانية نجاح المصالحة هذه المرة.


بيان الفصائل عملياً، لا يتجاوز حدود إبقاء الباب مفتوحاً على الأمل تجنباً لإعلان الفشل، ذلك أنه لم يتضمن معالجات أو اتفاقيات بشأن حل القضايا والعقبات التي تتعلق بالمرحلة الأولى من المصالحة، التي تصر حركة فتح على أنها تقتضي تمكين الحكومة قبل الانطلاق نحو ملفات أخرى.


الغريب في الأمر، أن الحوار خلال المرة الأولى والثانية، لم يقدم للناس، جواباً عن ماهية ومعايير عملية التمكين، الأمر الذي أبقى الباب مفتوحاً على الاجتهاد وتسبب في اندلاع موجة من الاشتباك الإعلامي، والتصريحات المتضاربة، التي تثير المزيد من الخوف لدى الجمهور الفلسطيني بما في ذلك الفصائل التي لا تملك جواباً على سؤال التمكين الذي لم يحظ بجواب متفق عليه بين حركتي فتح وحماس. على أن الاشتباك الإعلامي هذه المرة يختلف عن المرات السابقة ما قبل اتفاق القاهرة الأول في الثاني عشر من تشرين الأول الماضي، فلقد خلا الخطاب من كلا الطرفين من الاتهامات الصعبة التي تعود عليها الطرفان خلال السنوات السابقة، وظل الخطاب مسقوفاً بإبداء الطرفين الرغبة والالتزام بتحقيق المصالحة.


في الواقع ومن خلال التصريحات المعلنة التي تصدر عن مسؤولين في الحركتين بشأن مسألة التمكين، فإن الإنسان يخرج بنتيجة تبدو أنها تغلق الطريق. مقابل ما صرح به عزام الأحمد عضو اللجنة المركزية لحركة فتح ورئيس وفدها للحوار، من أن المسألة لا تحتاج إلى أكثر من ربع ساعة، حيث يفترض أن تطلب حماس من موظفيها العودة إلى بيوتهم وإلى الأبد، فإن خليل الحية عضو المكتب السياسي لحركة حماس، يعلن أن ملف الموظفين وملف المقاومة وسلاحها، هي خطوط حمر لا يمكن إخضاعها للنقاش. يحتاج الأمر التدقيق الشديد، من قبل المسؤولين حين يتحدثون عن القضايا المفتوحة أو العالقة، كما يحتاج الأمر قدرا معقولا من الصراحة والشرح، وتبرير المواقف، حتى لا يؤدي ذلك إلى إرباك الناس أكثر مما هم عليه من الإرباك والارتباك.


كلام الطرفين فيما يتعلق بملف الموظفين والتمكين، ينطوي على قدر واضح من الرغبة في الإقصاء، بالرغم من أن ثمة اتفاقا على أن هذا الملف برهن عمل اللجنة الإدارية الفنية التي عليها أن تنهي أعمالها أوائل شباط القادم. إزاء التعاطي مع هذا الملف، الذي على الطرفين أن يتفقا بشأنه مع بداية الشهر القادم، يجتهد الوفد الأمني المصري، الذي وصل إلى غزة يوم الاثنين الماضي للمساعدة ولتحديد طبيعة المشكلات التي تعترض مسألة التمكين، وإصدار الحكم بشأن من يتحمل المسؤولية عن التعطيل.


في اليوم الثاني لوصول الوفد الأمني، اتخذت الحكومة قراراً يطلب من الموظفين الالتحاق بوظائفهم بعد أن جرى إحصاؤهم قبل ذلك، وهو أمر لن يوضع موضع التنفيذ قبل الثالث من كانون الأول بسبب العطل الرسمية. يؤشر هذا القرار الى أن الوفد المصري نجح في إزالة العقبات التي تحول دون ممارسة الحكومة مسؤولياتها، إلاّ إذا كان المقصود رفع العتب، خصوصاً وأن حماس أعلنت أن مثل هذا القرار من شأنه أن يعقّد المشاكل. على المقلب الآخر، لا يدرك الإنسان سبباً لإثارة ملف المقاومة وسلاحها، طالما أن ثمة اتفاقا على تأجيل البحث في هذا الملف إلى وقت لاحق، حتى لا يكون الخلاف عليه سبباً في تعطيل المصالحة قبل أن تبدأ خطواتها الأولى، تعود بنا كل هذه التجاذبات والاختلافات، إلى السؤال الأساسي بشأن ضمانات نجاح أو فشل هذه الجولة من التدخلات والحوار بشأن المصالحة.


أولاً: لا بد من ملاحظة أن هذه الجولة من العمل على خط المصالحة لم تكن قراراً فلسطينياً خالصاً، فما كان لها أن تنطلق بمثل هذه الجدية، لولا مطالبات المجتمع الدولي بما في ذلك الولايات المتحدة، والمجتمع الإقليمي والعربي بضرورة إنجاز هذه المصالحة لارتباطها بأفق التحرك السياسي الأميركي نحو التسوية. في هذا المجال لا بد من ملاحظة أن الضغوط الأميركية وغير الأميركية على الفلسطينيين، إنما تندرج في إطار تقريب مخرجات المصالحة من الشروط الأميركية وليس بهدف تعطيل وإفشال المصالحة.


ثانياً: لا بد من ملاحظة حاجة الطرفين كل لأسبابه، للخروج من نفق الانقسام، وإدراكهما أيضاً كل لحساباته من أن البدائل تنطوي على مخاطر جمّة، بما يجعل من خيار المصالحة، الأقل تكلفة، والأكثر جدوى.


ثالثاً: الحضور غير المسبوق للدور والحضور المصري في معالجة هذا الملف، إلى الدرجة التي لم تعد مصر معها تكتفي بدور الراعي، أو المشرف، أو المشجع، أو المستضيف، ومما يجعلها شريكاً ومنخرطاً في العملية من ألفها إلى يائها.


هذا يعني أن الاتجاه العام لحركة المصالحة، يسير إلى الأمام، ولكن بدون المبالغة في تقدير حجم ووقت الإنجاز، إذ لا يمكن تجاوز ما تكرس خلال سنوات طويلة من الانقسام خلال أسابيع أو أشهر. إن كانت المصالحة عملية تاريخية تستهدف تحقيق إنجاز تاريخي، فإنها لا يمكن أن تتحقق دون أن يدفع المخطئ ثمن ما ارتكبه من خطأ، كما لا يمكن ايضاً، أن تكون مسألة استعادة الوحدة دون ثمن يدفعه الفلسطينيون كشعب وليس فقط كفصائل وسلطات، كما لا يمكن تحقيق ذلك دون مساومات وتنازلات. لا يمكن للمصالحة أن تكون عملية جمع بين كل ما حققه لنفسه كل طرف، فما تحقق لهذا الطرف أو ذاك خلال الانقسام لا يصلح أن يستمر خلال مرحلة استعادة الوحدة.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد