لا بد من أن مشهد الوفود المتحاورة في القاهرة وهو يكاد يخلو من المشاركة النسوية يثير العديد من علامات الاستفهام حول فهم المشاركين للمصالحة، وهو الدور الغائب للمرأة الفلسطينية في صناعة المستقبل.
وفيما يصادف هذه الأيام اليوم العالمي لمناهضة العنف ضد المرأة فإن واقع المرأة الفلسطينية بحاجة للكثير من التعزيز والتمكين (ليس على غرار الصراع على تمكين الحكومة) من أجل الوصول إلى وضع سوي تكون مساهمة المرأة في صناعة القرار الوطني على قدر تضحياتها الكبيرة ومساهمتها الفاعلة في النضال التحرري.
وربما تعكس صورة شبه الغياب التي نراها في حوارات المصالحة الوطنية للمرأة هذا الواقع والحاجة لتغيره. فهو من جهة لا يعكس تلك المساهمات المهمة لها في النضال والكفاح اليوميين من أجل استعادة الوحدة ولا الآلام الكبيرة التي تكبدتها جراء الانقسام وأحداثه الدموية، حيث كانت الضحية الأكثر خسارة (بجانب الوطن، إذا جاز الفصل بينهما) في هذه الأحداث وما تلاها.
ومن وجهة أخرى فإن هذا التغييب يعكس المستقبل الذي يتراجع فيه دور المرأة فيه. للدرجة التي يمكن الافتراض أنه لولا نظام الكوتا – المُختَلف عليه مفاهيمياً وإجرائياً- ربما لقلّ تمثيل المرأة الضئيل أصلاً في المجلس التشريعي وفي الحكومة والمجالس البلدية. وبالنظر إلى تمثيل المرأة في المكاتب السياسية للتنظيمات واللجنة المركزية لـ"فتح" فإن الكارثة تبدو أكبر. فهي شبه غائبة. "فتح" التنظيم الأكبر لا يوجد إلا امرأة واحدة في لجنتها المركزية في آخر ثلاث مؤتمرات للحركة. واليسار أيضاً ليس بأفضل حال، أما " حماس " و"الجهاد" فحدث ولا حرج، ربما باستثناء الدور البارز لعضو المجلس التشريعي الراحلة مريم فرحات (أم نضال).
المرأة تحملت القسط الأكبر من آلام الانقسام وجروحه التي ظلت غائرة في روحها. الأم التي فقدت ابنها أو زوجها أو أخاها، ظلت طوال فترة الانقسام ممزقة بين أولادها. وحدها ربما جسدت العذابات التي نتجت عن تمزق النسيج الاجتماعي وتهتك أواصر العائلة، فالرحم الذي أنجب الأولاد وحده يعرف طعم مرارة اقتتال الإخوة. وهي التي تعرف كيف تكوي الدموع الخدود، وكيف تكون الذاكرة سيفاً مسلطاً على رقبة الحاضر، تزيل أي جمال ممكن فيه. هذه الأم ظلت وفية رغم ذلك للمجتمع ولقضاياه، تحرس نار الحلم وتبحث عن تحقيقه، لم تكل ولم تمل. ولأنها تعرف نار الانقسام وآلامه كانت الأكثر بحثاً عن الوحدة والمصالحة والوفاق.
لا بد من أننا نتذكر بحنين تلك الوقفات العظيمة التي كانت تقوم بها المرأة أمام المجلس التشريعي في حديقة الجندي المجهول وسط مدينة غزة كل يوم أربعاء مطالبة بإنهاء الانقسام. تلك الوقفات التي حملت الكثير من المعاني وجسدت بصدق عناد المرأة الفلسطينية في مسعاها لطي صفحات الانقسام واستعادة زمن الوحدة من براثن الماضي.
لم تخف وقتها من بطش الجنود ورجالات الشرطة ولا من العبارات النابية التي كن المشاركات يسمعنها، ولا من من كل المضايقات التي كن يتعرضن لها. كن يخرجن بعناد وإصرار يليقان بالمرأة الفلسطينية صاحبة الدور المهم في حمل عبء النضال الوطني، لأن الذي يدفع في رأس المال تهمه الخسارة كثيراً، لذا يسعى لتجنبها.
والمرأة الفلسطينية التي دفعت في رأسمال النضال التحرري سواء بمشاركتها المباشرة عبر انخراطها في العمل الفدائي والمقاومة اليومية للاحتلال أو من خلال أبنائها أو الأزواج والإخوة، أو من خلال بث روح الفداء وإرضاعه لأطفالها، وحدها تعرف قيمة إنجاز المصالحة وإنهاء هذا الانقسام الأسود، والبحث عن مستقبل أجمل، يليق بكل تلك المعاني الجميلة التي رفعها النضال التحرري الفلسطيني. تلك الوقفات الشامخة التي طالبت فيها المرأة الفلسطينية على اختلاف ألوان قوس قزح انتمائهن بإنهاء الانقسام، كانت مهمة في تسليط الوعي الشعبي على أهمية إنهاء الانقسام والعمل على تحقيق المصالحة، ولا بد من أن مثل هذا الدور لم يكن عابراً ولا يجب بالتالي أن يكون حضور المرأة في المصالحة عابراً.
أيضاً لا يمكن أن يغيب عن بالنا تلك المساهمات الفاعلة التي قدّمتها الشابة الفلسطينية في مسيرات الخامس عشر من آذار من العام 2011 المطالبة بإنهاء الانقسام والتي كانت الصرخة الأقوى في الشارع الفلسطيني للمطالبة بوضع حد لهذه المهزلة. في ذلك الوقت خرج عشرات آلاف الشباب والشابات للشوارع غاضبين مطالبين بالتغيير، والتغيير في القاموس الفلسطيني يعني إنهاء الانقسام. كان صوت "الشعب يريد إنهاء الانقسام" بديلاً للحالة الراهنة التي يقضي فيها الانقسام على الشعب ويؤجل تحقيق أماني وتطلعات الشباب في مجتمع مكونه الأساس من الأطفال والشباب.
كانت طالبات الجامعات والشابات من الثانويات في مقدمة الخارجين للصراخ في وجه أرباب الانقسام وتجاره. ولا يمكن أن ننسى الفتيات الشجاعات اللاتي تصدين لقمع رجالات الشرطة في ساحة الكتيبة وبعضهن تم نقلهن للمستشفى من شدة الضرب، والبعض الآخر تعرضن للاعتقال والاستجواب. لحظة سجلت فيها الشابة الفلسطينية بتضحياتها الميدانية دورها، ولم تستجديه من أحد، ولم تتوقع من أحد أن يخط لها قائمة بإرشادات التصرف. فالشابة الفلسطينية التي تعاني من ضياع فرص الحلم، بعد أن أجهز الانقسام على مخزون الأحلام، والتي ترفض أن تكون مجرد تابعة في قافلة الفعل اليومي، خرجت بإرادة وتصميم من أجل أن تساهم في رسم مستقبلها، المستقبل الذي تبحث عنه وتسعي من أجل تحقيقه. أيضاً هذه الشابة مغيبة من الحوارات الوطنية.
لا بد من أن أحدهم سيهمس بخبث أن الشباب كلهم مغيبون، فممثلي التنظيمات كلهم، تبارك المولي فيما وهب، من أصحاب الرؤوس البيضاء والأعمار الشابة التي لا تقل عن الستين. وهذه قضية أخرى بحاجة لنقاش. بالطبع إن أحداً لا يطالب مثلاً بأن يتم اختيار شبان من الطريق ليقوموا بعملية الحوار الوطني، ولكن كان يمكن للتنظيمات أن تختار في وفودها الحوارية قيادات شابة، وقيادات شابة تعني شباباً وليس أصغر أعضاء مكاتبها السياسية ولجانها المركزية سناً، ويكون بالتالي الشاب فوق الخمسين والستين. لكن هذا لم يحدث، ويتم منعه ربما، أو لأن هؤلاء لا يحسون بالزمن لأنه توقف عندهم، تم تجاهل مثل هذه الشريحة المهمة وتم تغييب المرأة عن عملية المصالحة. مرة أخرى الملام في ذلك ربما ليست الحركات الإسلامية التي لا ترفع شعارات مساواة المرأة ودورها (وإن كان يجب تحريضها لفعل ذلك) بل "فتح" واليسار وما يحملانه من أفكار تقدمية ودعاوية تثويرية للمجتمع، أو هكذا يزعمون!!
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية