كالعادة، إن جماهير "فتح" لا تخذل الحركة الأم، عمود الحركة الوطنية وصاحبة الفضل في نهوضها المعاصر. الجماهير التي يجب الالتفات أكثر إلى مصالحها وتطلعاتها وبالتالي التعبير الأكثر دقة عنها.

وإلى جانب كل ذلك فإن هذه القوة الجماهيرية تشكل تحدياً كبيراً لـ"فتح" التي يجب أن تثبت أنها قادرة على أن تحولها إلى قوة انتخابية تساندها في صناديق الاقتراع، وليست مجرد قوة احتفالية. وهنا يكمن التحدي الكبير لـ"فتح" في المرحلة المقبلة. وعليه فإن التفاف الناس حول الحركة الأكبر، يجب أن يتم استثماره بسياسات ومواقف ونشاط تنظيمي يضمن مواصلة هذه الالتفاف لحظة الحاجة الكبرى. وهنا تقع المسؤولية على "فتح" لا على الجماهير.


ربما لم يكن المشهد الذي جري في ساحة السرايا في الذكري الثالثة عشرة لرحيل الزعيم ياسر عرفات جديداً على "فتح"، ولم يكن مستغرباً بالتالي، فقد خرجت الحشود أكثر منه في ذكرى انطلاقة "فتح" عام 2013 وفي ذكري ياسر عرفات عام 2007، لكن كالعادة فإن لدي جماهير "فتح" ما تقوله حين يتعلق الأمر بحركتهم وقيادتهم والرهان على تراجع مكانة "فتح"، حيث تخرج وقتها الجماهير لتؤكد أن البذرة التي غرسها آباء الحركة وارتقى جلهم شهداء من أجلها، وحماها الشهداء والأسرى والجرحى بالدماء والدموع والعرق، ما زالت تعني الكثير، وما زالت بوجهة نظرهم هي الطريق الأكثر وضوحاً لتحقيق التطلعات الوطنية وإنجاز المصالح العليا للشعب المشرد في كل بقاع الأرض. إنها الترجمة الفعلية لعبارة "فتح" الأثيرة: " فتح مرت من هنا". حين تمر "فتح" يعني أن النضال التحرري مستمر. وحين تقول "فتح": إن "فتح مرت من هنا"، فهذا يعني أن الغرس الفتحاوي في كل ذرة من تراب الوطن، إنه المرور الذي يجعل "فتح" هي حركة الجماهير، أو كما يحب الفتحاويون القول: "أم الجماهير". مرة بعد أخرى فإن جماهير "فتح" ومناصريها ومحبيها يؤكدون تمسكهم بهذه الفكرة والتفافهم حول وعيهم وانتمائهم الفتحاوي، هذا الانتماء ذاته الذي يدفع إلى حمل لواء النضال والكفاح. خلطة "فتح" العجيبة وقدرتها الكبيرة على ابتداع وصفات يمكن المجازفة بالقول: إنها سحرية لكل المراحل، تجعل الفكرة الفتحاوية قادرة على أن تحافظ على بريقها. فـ"فتح" لا تقاتل فقط، هي تبني أيضاً. وربما مثال السلطة الوطنية التي حملت "فتح" كل أزمات مرحلة بنائه، وعارضها فيها الكل الفلسطيني، خاصة في أقصى اليمين وأقصى اليسار، باتت الآن، أي هذه السلطة، مطلباً وطنياً تم الاقتتال والانقلاب على مؤسساته من أجل السيطرة عليه، ومن ثم استمر الانقسام لعقد من الزمن من أجل المحافظة على مكتسبات الحكم فيه. بالطبع "فتح" لم تقل: إن هذا مشروعها وحدها، وهي لم ترد له ذلك، ولا أخالها تريد له في المستقبل أن يكون حكراً عليها، ولكن أليس في كل ذلك جزء كبير من الحقيقة وقسط أكبر من الصراحة. 


لكن أيضاً الحقيقة أن جماهير "فتح" لم تتوقف يوماً عن الالتفاف حول الحركة. فهي كما تم ذكره سابقاً خرجت بمليونية مشهودة في كانون الثاني 2013 ليقولوا في مشهد غير مسبوق وغير معاد: إن غزة رغم خضوعها لحكم " حماس " بالقوة لكل هذه السنوات، ما زالت تلتف حول "فتح" وفكرتها وقيادتها، وأن الوطنية الفلسطينية التي تمثلها "فتح" هي جوهر الـ"دي أن آي الفلسطيني"، كذلك ظلت "فتح" واقفة على رجيلها بعد الانقلاب عام 2007 وما رافقه من قسوة وما تلاه من ملاحقة وتعذيب، ظلت "فتح" حركة الجماهير ولم تتوقف عن العمل العلني رغم قسوة الظروف وقتها. الزمن الفتحاوي لم يتوقف عند أي شدة، ظلت عقارب الساعة الفتحاوية تسير وتدق بقوة الجماهير التي تريد "فتح"، والتي تريد من "فتح" أيضاً.
لكن أيضاً كل ذلك يجب ألا يعني استكانة "فتح" لكل هذا الزخم الجماهيري، بل يتطلب عملاً أكثر من "فتح" من أجل أن تصون مصالح هذه الجماهير وتجيد تمثيلها بطريقة تليق بها. لنتذكر أن قوة الجماهير لا تعني بالضرورة قوة انتخابية، فالمواطنون الذين يحبون "فتح" عاقبوها بقسوة وربما وهم يتألمون عام 2006 في الانتخابات التشريعية. تذكروا مثلاً أن من شارك في البرايمرز الداخلي في "فتح" لاختيار المرشحين للترشح للانتخابات تجاوز بآلاف عدد أكبر الأصوات التي حصل عليها أي مرشح فتحاوي في الدائرة. في شمال غزة شارك أكثر من ثلاثين ألفاً، لم ينجح أي مرشح فتحاوي في المحافظة عليهم، والأمر ذاته في نابلس وغيرهما من المحافظات.


هذا يتطلب الكثير من السياسيات التي تعيد "فتح" إلى الجماهير والتي في صلبها حسن اختيار مرشحيها بعد ذلك، وحسن اختيار من يمثلها في المؤسسات العامة.

أما التنظيم فيقع عليه مسؤوليات جسام أولها ألا يتحول كما يفعل الآن إلى تنظيم انطوائي متقوقع على نفسه محصور فيها، وأن يصوغ إستراتيجيات يقدر من خلالها أن يلامس ما يتطلع إليه أنصاره. سر الخلطة الفتحاوية يفقد نكهته أمام هذا التقوقع والانعزال، ولا يجد نفسه إلا أمام الجماهير، الجماهير التي خرجت لتقول: لبيك "فتح".


ربما يكون هذا الكلام ضرورياً إذا آمنت "فتح" بأن المصالحة لا بد من أن تقود إلى الانتخابات لأن الانتخابات هي أفضل طريقة للفصل في أي خلاف بين البشر. على الأقل لا نعرف طريقة أفضل حتى الآن. وهذا يتطلب من "فتح" حين تواجه الناس في غزة حيث موطن الصراع الحزبي أن تقدّم لهم خيارات جديدة لأن أسيادكم في الجاهلية لا يمكن أن يظلوا أسيادكم في الإسلام. وهذا يستحق وقفة وتأملاً كبيرين من "فتح" حتى لا تدفع الثمن مضاعفاً بعد ذلك.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد