كيف ينتصر على الغياب ويعلن احتلاله الدائم للذاكرة، متربعاً على كل تفاصيلها بعد كل هذه السنوات؟ إنه أبو الرواية والحكاية والرحلة الطويلة من العدم نحو المستحيل الذي خَرّ طائعاً أمام رجل لا يشبه سوى أبطال الحكايات القديمة الذين تلدهم صخور البحر، فيمضون حياتهم في عراك مع الموج.
هكذا كان راحلنا الخارج لتوه من بطن النكبة نحو نكبات لم تتوقف عن التساقط بلا انقطاع، يشبه أوديسيوس في ترحاله الدائم بحثاً عن عودة تكسرت كل سفنها، فكان عليه أن يصارع كل الأنواء مجدفاً بيديه الصغيرتين نحو أثينا الفردوس المفقود نحو الحلم.
كان عليه أن يصد الريح من جهاتها الأربع بصدره العاري، كان على هذا الجسد النحيل أن يغير مسار تاريخ كتبه الأقوياء بكل الظلم، كان عليه أن يصحح كل أخطائه دفعة واحدة وأن يحرس حلم الشهداء.
كان يسحب الشمس من وسط الغيوم، كان يأمرها بالشروق وسط زخات المطر وزخات الرصاص وينسج من خيوط أشعتها خيمة شعب أتعبه الرحيل على هذه الأرض من منفى إلى منفى دون توقف، وكان راحلنا متنقلاً لا يعرف سوى حقائب السفر وركوب الموج.. كان عرفات الشق الآخر لتوأم عرفات الذي لا يشبهه أحد، كان يستطيع أن يكون أي منهما في لحظة، كان كل شيء الأب والابن القوي الضعيف، كانت نظرة من عينه كفيلة بإشعال الأرض ودمعة كفيلة باندلاق كل العواطف على الأرض، كان يلخص قدر هذا الشعب بما يملك من ملامح.
أصابنا بحلم ثقيل فغادرنا معلقين دون أن نبلغ المدى المفتوح فلا يزال السيف مغروساً في لحمنا وما زلنا في ذروة حاجتنا إلى ما يملك من عناد وإصرار وابتسامة ساخرة لزمن سرق كرمته وحقله وبحر لم تتوقف أمواجه عن التلاطم وفي كل مرة نسأل: أين ياسر عرفات؟ هذا سر بقائه وسر التصاقه بالذاكرة.
كان يشبه أبطال الأساطير في معاركهم. كيف نجا من مكر التاريخ ومطارداته، إنه الرجل الذي حوّل الواقع إلى أسطورة بالواقع لحظة العودة إلى الوطن لم تحتمل الأسطورة تغيير قوانينها ولا ساعتها الرملية وسنوات قليلة يعود للأسطرة من جديد في انتصار لها كبطل لا يموت ميتة طبيعية، بل وسط المعارك عندما يتلقى ضربة سيف أو طعنة رمح مسمومة.
قبل خمس سنوات في رحلة فوق المحيط عندما كنت عائداً من الولايات المتحدة كان شريكي في معقد الطائرة طبيب هندي في العشرينيات من العمر، سألني: من أين أنت؟ قلت: من فلسطين التي لا يعرفها، لقيت صعوبة في تعريفه بعد أن أشرت لكل مفاتيح الوطن.. القدس ، الثورة، السلطة، منظمة التحرير وفجأة بعد أن فقدت الأمل سألته: أتعرف ياسر عرفات؟ كان قد مر على غيابه ثماني سنوات قفز الرجل من مقعده قائلاً: أنتم شعب ياسر عرفات؟ كانت تلك اللحظة التي أعرف أن فرادته في كل شيء، فقد يعرف الزعماء بشعوبهم، لكن عرفات هو الذي يُعرّف شعبه، وحتى بعد موته بقي عنواننا الوحيد. 
عاش الحياة بسيطاً قبل أن يغادر في ذلك اليوم الكئيب من أيام الخريف الذي أصاب وطناً بيتم وحداد لم يغادره الأبناء بعد، عندما يجري استدعاؤه في كل مفاصل التاريخ وكمائنه وألغامه المزروعة في الطرقات. فقد كان قادراً على تفكيكها بكل ما أوتى من حنكة منذ البدايات عندما أنتج ثورة غطت مساحة الكون حين ذهب للعمل كمهندس في الكويت ليكتشف أن اختصاصه قياس المسافات بين الألغام المزروعة.
إن الروايات التي تتناقل على ألسنة الذين عاشوا لصيقين به تشي بأننا كنا أمام رجل مختلف وبطل مختلف وإنسان مختلف، كيف كان يرتق ثوبه الذي مزقه الزمن، القفز بين القنابل المنفجرة، كيف كان يأكل؟ وكيف كان يلبس؟ وكيف كان  ينام؟ تكفي زيارة لبيته المتواضع وأثاثه البسيط وما تبقى في خزانة ملابسه للقول: إنه رجل من عالم آخر زاهد في حياته لتسأل: أهذا هو الرجل الذي ملأ الدنيا ضجيجاً؟
خاض عرفات كل معارك الشرف الوطني حاملاً قضيته بعد أن تركه الجميع وحيداً أمام حقائق التاريخ الموجعة وشطحاته الأكثر جنوناً، كيف يجري استبدال شعب بآخر وتزييف شهادة الميلاد في أرض الميلاد، كان عليه أن يعاند معاكساً بحجر في مقلاع وبإرادة وبنظرة غاضبة كانت تكفي لاهتزاز الأرض.
لقد التبست علينا الصورة طويلاً وهو ينتقل بين الحلم والواقع، بين الأسطورة والحقيقة، كيف تحول إلى بطل جمع كل رموز التراث في شخص واحد فهو ابن الإله بعل والآلهة عناة ووريث صلاح الدين وامتداد لعز الدين القسام وسمرة الكنعاني وصديق نوارس بحر غزة وطحلب مائها والتي بكته وجعاً ودماً لأنها لم تعرف الحياة سوى مع ياسر عرفات وبعدها أسدلت الستار على الفرح وألقت بكل أحلامها، فقد فاضت اليابسة حزناً على البحر، فقد غادر من كان يهدهد نومها ويكفكف دمعها لذا ليس مصادفة أن تحيي دوماً غزة ذكرى راحلها الكبير دون باقي تجمعات الشعب الفلسطيني؛ فلليتم في غزة طعم آخر.
ومع كل ذكرى في خريف لم يكن ككل الفصول، يوم أن ألقى قبلة الوداع قبل أن يعود محمولاً على الجفون المبتلة بوجع الفراق، نعيد تلاوة تعويذتنا الجميلة التي سرقتها منا خيانة الموت قائلين: "هنا كان ياسر عرفات". تصطف طوابير الحزن على أرصفة وطن فقد ربان سفينته وحيداً أمام الموج. هو الرواية والحكاية التي نرويها لأولادنا قبل النوم وتنتهي بجملة: "هنا كان ياسر عرفات..!".
Atallah.akram@hotmail.com

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد