لم يكن الإنجليز ليتمكنوا من احتلال فلسطين وتنفيذ وعدهم المشؤوم- وعد بلفور- لولا انتصارهم غير المتوقع في معركة غزة الثالثة، ونجاح الجنرال اللنبي في اختراق خط الدفاعات العثمانية بين بئر السبع وغزة.

لقد شكل سقوط غزة بوابة احتلال فلسطين. حين سقطت غزة سقطت فلسطين. وحين تم الأمر باتت الطريقة مفتوحة لتسليم فلسطين للحركة الصهيونية. تم ذلك في السابع من نوفمبر عام 1917 بعد خسمة أيام على إصدار وعد بلفور.

فبعد أن تعثر الحلفاء في دخول بلاد الشام وهزيمة الجيوش العثمانية خاصة بعد استبسال الأخيرة في الدرنديل ومعركة جاليبوني في الشمال، استقر الرأي على فتح جبهة في الجنوب من جهة مصر حيث توجهت القوات البريطانية لاحتلال غزة ففشلت في معركتها الأولى في مارس التي اسفرت عن هزيمة مدوية للقوات البريطانية الغازية التي دفعت بأكثر من 22 ألف جندي لاحتلال المدينة ومن ثم التقدم إلى باقي المدن الفلسطينية.  قتل في المعركة 523 جندياً بريطانياً وأصيب قرابة 3 آلاف منهم.

وفي أبريل عاودت القوات البريطانية مدعومة بقصف مدفعي من الأسطول الإنجليزي على المدينة هجومها من جهة تل المنطار حيث منيت بهزيمة نكراء تعتبر الأكثر جسامة وفداحة في تاريخ المعارك البريطانية في المنطقة حيث قتل 6444 جندي بريطاني. على أثر تلك الهزيمة تم استبدال الجنرال أرشبيلد موراي قائد القوات البريطانية الغزاة بالجنزال اللنبي الذي أعاد ترتيب القوات وغير من خطط الهجوم حتى يتمكن من فك لغز غزة. واستخدم الجنرال البريطاني مبدأ عسكرياً هجومياً جديداً إذ قرر أن كسر التحصينات لا يعني بالضرورة صرب المركز بل نقطة الحسم. وعليه نجحت فرقة خيالة نيوزلندية باقتحام الخط التركي في واحدة من أضعف مناطق تعزيزاته وعلى إثر ذلك دخلت القوات البريطانية المدينة. ولابد أن الكثيرين من اللاجئين في غزة من قرى شمال غزة المدمرة يذكرون قصص آبائهم عن الخيالة الذين جاءوا في الليل واشتبكوا مع القوات البريطانية. وللمفارقة فإن معركة غزة الثالثة كانت آخر معركة تستخدم فيها الخيول وآخر معركة تحسمها الخيول. استمرت المعركة من نهايات أكتوبر حتى فجر السابع من نوفمبر حيث سقطت المدينة وفي الثامن منه سقط خط الدفاع التركي بالكامل حيث تم أسر قرابة 12 ألف جندي تركي. نتج عن معارك غزة الثلاثة تدمير أكثر من ثلثي البلدة القديمة في المدينة، ونجا سوق الزاوية (الذهب) وبعض المساجد والكنائس القديمة والقليل من البيوت، وهذا ما يفسر عدم وجود بلدة تاريخية في غزة مثل مدن الساحل الفلسطيني خاصة يافا وحيفا.

نتيجة المعركة الأهم كانت سقوط كل فلسطين تحت حكم الانتداب البريطاني حيث نجح اللنبي في دخول القدس في السابع عشر من ديسمبر قبل أسبوع من أعياد الميلاد المجيدة حيث كان قد تعهد لوزير الحرب ورئيس الوزراء بأن يحتفل الكريسمس في القدس.

الموظف الخمسيني في مكتبة متحف الحروب الإمبراطورية في لندن، بعد أن لاحظ ترددي على المكتبة الموجود في أحدى زوايا المتحف، اكثر من مرة باحثاً في الوثائق والمخطوطات، سالني إن كنت أبحث عن شيء محدد، قلت إنني أبحث عن يوميات الجنود خلال معارك غزة الأولى والثانية والثالثة، سالت: "هل تعرفها؟"، رد بتلقائة واحدة من اعظم معاركنا هناك. ناولني ما أريد ومضى إلى عمله.

المقبرة الإنجليزية في غزة التي تضم رفات أكثر من 3 آلاف جندي بريطاني والمقبرة الإنجليزية في دير البلح التي تضم رفات أكثر من 700 جندي وثمة مقبرة ثالثة في الرملة. المفارقة هذه العبارة الساخرة التي تقول إن شعب فلسطين قد وهب ارض المقبرة لترتاح فيها أجساد الغزة. تقول العبارة على مدخل المقبرة "هذه الأرض المقامة عليها هذه المقبرة قد وهبها شعب فلسطين كمثوى أبدي لرجال قوات الحلفاء الذين سقطوا قتلى في حرب عام 1914-1918م والمخلدين في هذا المكان". بريطانيا التي لا تعترف بفلسطين تعترف قبل مائة عام بأنها أرض فلسطين. عموما كانت تلك معركة هامة في مصير المنطقة وفي مستقبل فلسطين.

غزة المدينة الجنوبية التي لم تتوقف منذ ذلك الوقت عن أن تصبح مركزاً للفعل السياسي، ظلت طوال الوقت صامدة رغم الهزائم، قادرة على الثبات والحفاظ على المشروع الوطني. فحين تسقط غزة تسقط فلسطين، وحين تظل غزة وتبقى جزءاً من الكل الكبير تكون فلسطين بخير. وربما هذا درس يصلح للحديث عن المصالحة التي لسنا بحاجة للتأكيد على أهميتها، وربما درس ونحن نستعيد تلك اللحظات الحزينة حين سقطنا كلنا من فوق (على غرار يسقط واحد من فوق) ولم يسقط وعد بلفور.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد