لم تكن الأحداث المتسارعة التي حدثت في المملكة العربية السعودية عشية وفاة الملك عبدالله بن عبد العزيز بداية العام 2015، مجرد خطوات لترتيب حكم الملك سلمان الجديد، بل كانت بداية لعهد جديد مختلف كلياً على المستوى الداخلي والخارجي عن النظام السابق عبر إحداث تغييرات كبيرة وشاملة في الديوان الملكي والجيش السعودي عبر تولي الأمير محمد بن سلمان الذي يمثل الجيل الثالث رئاسة الدوان الملكي ووزارة الدفاع، إضافة لتصعيد سعودي سياسي وعسكري ضد إيران وحلفائها في المنطقة عبر شنّ عملة عاصفة الحزم التي انطلقت بعد أسابيع قليلة من تولي الملك سلمان مقاليد الحكم لمواجهة التمدد الإيراني في المين، فهذه التغييرات لم تكن مجرد تغييرات في نظام الأسرة الحاكمة بل كانت بداية لسلسة من الأحداث المخطط لها جيدا لإحداث تغيرات سياسية وهيكلية في النظام السياسي السعودي عبر صعود الجيل الثالث لتولى زمام الأمور.
التطورات الأخيرة وسرعة الأحداث والاعتقالات التي أعلنت عنها السلطات السعودية والأسماء التي تضمنتها تؤكد أن الأمور تتعدى عملية مكافحة الفساد، إلى التمهيد بانتقال السلطة للأمير محمد بن سلمان الذي يمثل الجيل الثالث من أبناء الملك المؤسس عبد العزيز آل سعود، خاصة أن عملية عزل الأمير محمد بن نايف قبل شهور صاحبها وجود تملمُل داخل الأسرة الحاكمة بل وصل الامر للاعتراض في المجالس الخاصة.
الأحداث في العربية السعودية أخذت صداها في الصحف الدولية التي ألقت الضوء على التطورات المتسارعة في السعودية، وحاولت قراءة قرارات اللجنة العليا لمكافحة الفساد برئاسة ولي العهد الأمير محمد بن سلمان باحتجاز 11 أميرا وأربعة وزراء حاليين وعشرات الوزراء السابقين، البداية كانت مع صحيفة نيويورك تايمز التي علّقت على حملة الاعتقالات الواسعة بقولها إن هذه الحملة الحالية الشاملة بالسعودية تبدو كأحدث تحرك لتعزيز سلطة ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، وأضافت أن الأمير محمد بن سلمان قد صار الصوت المهيمن في كل من شؤون الدفاع والجيش، والسياسة الخارجية، والاقتصاد، والسياسات الاجتماعية، الأمر الذي أثار همسا بعدم الرضا داخل العائلة المالكة بأنه امتلك سلطات أكبر مما يجب في عمره الصغير نسبيا.
صحيفة "وول ستريت جورنال" الأمريكية، سلطت الضوء أيضاً على نبأ اعتقال الأمير الوليد بن طلال، واصفة إياه بأنه من أغنى الأشخاص في العالم، لافتة إلى أن "الحملة التي يقودها الملك وولي العهد محمد بن سلمان، تهدف إلى ضرب الفساد بجميع أشكاله" وقالت الصحيفة، إن "هذه الحملة غير المسبوقة تتزامن مع سعي القيادة السعودية إلى تعزيز مركزها وسط عملية من التغيير السياسي والاقتصادي في المملكة." وذكرت الصحيفة أن اعتقال أمراء وأعضاء في مجلس الوزراء جاء تصعيدا للحملة التي أطلقتها القيادة السعودية الجديدة بهدف توطيد السلطة في فترة انتقالية، موضحة أن الأمير محمد الذي تم تعيينه وليا للعهد في الصيف المنصرم بدلا من محمد بن نايف، شرع يعزز سلطته، في وقت من المتوقع فيه أن يتخلى الملك سلمان بن عبد العزيز عن السلطة قبل نهاية العام الجاري، أو في أوائل العام المقبل، حسب ما نقلته المجلة عن "مصادر مطلعة".
كما أن رأت الصحيفة الأمريكية أن هذه الخطوة الجديدة تهدف لتعزيز مركز الأمير محمد الذي يحظى بالدعم من الشعب السعودي"، وأفادت بأن "الكثير من السعوديين أشادوا بالخطوات التي يقوم بها الأمير محمد، خاصة في معالجة المشكلات الاقتصادية التي تواجه المملكة، والمضي قدما في خطة طموحة تهدف إلى تقليل الاعتماد على النفط في المستقبل."
بينما ذكرت صحيفة "واشنطن بوست"، أن "الحملة جاءت في أعقاب تزايد مستمر من التذمر الشعبي بشأن تفشي الفساد خاصة بين المسؤولين والمؤسسات الرسمية"، وأشارت إلى أن "الأمير محمد البالغ من العمر 32 سنة، يبذل جهدًا كبيرًا حاليًا لجذب رؤوس الأموال الأجنبية، وتنظيف المملكة من الشوائب؛ من أجل إغراء رجال الأعمال والمستثمرين الأجانب، لإقامة مشاريع على أراضي المملكة"، واعتبرت الصحيفة أن هذه الجهود تندرج في "إطار برامج كبيرة وطموحة تهدف في المقام الأول إلى تنويع الاقتصاد الوطني، وخفض الاعتماد على صادرات النفط المتقلبة بشكل تدريجي." بعيدًا عن تضارب المصالح وجاء في صحيفة "يو اس توداي" الأمريكية، نقلاً عن كريستيان كوتس من معهد "بيكر للسياسات العامة" في الولايات المتحدة، قوله إن "الأمير محمد يقوم بإعادة تخطيط وتصميم المملكة، بعيدًا عن تضارب المصالح التي ميزت البلاد لفترة طويلة"، وأردفت الصحيفة بأن "حجم هذه الحملة يعتبر غير مسبوق في التاريخ الحديث للمملكة"، معربه عن اعتقادها بأن "اعتقال الوليد بن طلال وغيره، سيحدث صدمة في كل الأوساط وخاصة مجتمع الأعمال المحلي والدولي" وفي نفس السياق رأت صحيفة "الغارديان"، البريطانية أن "إجراءات الملكية قوية وحاسمة، وتهدف إلى تعزيز مركز الأمير محمد في حملته ضد الفساد"، فيما علقت صحيفة "الإندبندنت" على الأحداث بقولها، إن "الإجراءات جاءت في إطار تغييرات شاملة في المجالات السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وإنها تعكس عزم الملك سلمان على المضي قدمًا". الصحف الفرنسية علّقت على الأحداث بطريقتها الخاصة، فقد أكدت صحيفة فان مينوت إن حجم "هذا التطهير" الذي لم يسبق له مثيل سيمكّن ولي العهد الشاب محمد بن سلمان من تعزيز قبضته على السلطة، وذكرت الصحيفة الفرنسية أن بن سلمان وعد في نهاية أكتوبر/تشرين الأول الماضي بتحويل السعودية إلى بلد "معتدل"، وتحطيم صورة هذا البلد النمطية بوصفه "مُصدِّر الوهابية"، التي تعتبر -حسب هذه الصحف- مغذي العديد من الحركات الجهادية عبر العالم، إضافة للدعم الذي تلقاه الأمير محمد من الرئيس ترامب خلال اتصاله مع الملك سلمان، فهناك توافق دولي وإقليمي على دعم جهود ولي العهد لنقل السعودية لمرحلة جديدة.
سيطرة ولي العهد الأمير محمد بن سلمان على أركان البيت السعودي في الاقتصاد والسياسة والدين والمجتمع صدمت المجتمع السعودي المحافظ ونخبه، فقد جاءت القرارات الأخيرة في سياق مكافحة الفساد من جانب وفي سياق تقريب ولي العهد أكثر من العرش عبر زيادة شعبيته، فما يحدث في السعودية الآن من أحداث متسارعة واعتقالات هو بمثابة عملية انتقال من حكم نظام الأسرة الحاكمة لنظام الفرد الحاكم، هذا الانتقال سوف يؤدي لانتقال مصاحب للمجتمع والنظام السعودي من نظام ديني إلى نظام ليبرالي مفتح، كما هو الحال في الإمارات العربية المتحدة، خاصة بعد تحجيم دور هيئة الأمر بالمعروف، والسماح للمرأة السعودية بقيادة السيارة وحضور المباريات، وبالتالي ما يحدث هو تصفية أي جيوب تتعلق بنظام الأسرة لضمان الانتقال السلس لنظام الفرد، وهنا تقف السعودية أمام مفترق طرق وتحديات كبيرة تتعلق باستقرار الأوضاع الداخلية، ومواجهة التحديات الخارجية التي لا تقل خطورة ، فالرياض تمر بمرحلة انتقالية بين نظامين مختلفين، وليس أمامها خيارات كثيرة، فهي إما أن تنجح في عملية الانتقال من النظام السابق للنظام الجديد وتتحول لنظام ليبرالي أو شبه ليبرالي مفتح، أو أن تفشل في عملية الانتقال لأسباب داخلية أو خارجية، وعندها ممكن أن تتفكك وتتحول لدول أو امارات صغيرة وهذا لا يتمناه أحد لأن بقاء السعودية قوية وموحدة ركيزة مهمة في استقرار المنطقة العربية.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية