مع بداية عام 1989، واجه الرئيس السوفياتي ميخائيل غورباتشوف، مصاعب اقتصادية وسياسية ما اضطره إلى صياغة سياسة جديدة، سياسة الشفافية «الغلاسنوست» تمهد لإعادة البناء «البروسترويكا» على أسس ديمقراطية خاصة تتبنى حقوق الإنسان والتحول إلى اقتصاد السوق وإلغاء احتكار الحزب الواحد للسلطة، الحزب الشيوعي والسماح بالتعددية الحزبية ومنح المزيد للمؤسسات المحلية، إلاّ أن هذه السياسة لم تنقذ الاتحاد السوفياتي ولا الدول السائرة تحت ولايته، فيما كان يسمى أوروبا الشرقية، التي كانت تتوحد في اطار عسكري مواز لحلف الناتو، وهو حلف وارسو، سقط حكم الحزب الشيوعي السوفياتي في 29 آب عام 1991، وسرعان ما انفجرت النزاعات القومية التي كان يظن البعض أن عقوداً من الوحدة والمجابهة مع المعسكر الغربي قد ألغتها، استقلت الجمهوريات السوفياتية سابقاً، وباتت جمهوريات روسية في اتحاد روسي، وانفرطت مسبحة أوروبا الشرقية ومعها حلف وارسو، سقط جدار برلين، بالتوازي مع «ثورات» استقلالية مزقت عدة دول كانت تسير وفقاً للنموذج الروسي، بولندا، وتشيكوسلوفاكيا، ويوغوسلافيا، بشكل أكثر وضوحاً، شهدت تلك الفترة ولادة دول جديدة مع إثنيات لم يكن يسمع بها أحد من قبل.
كان اللوم يوجه إلى سياسة غورباتشوف، وإلى الحكم المطلق وقمع الحريات، مع مسؤولية أقل للدور الذي لعبه المعسكر الغربي بقيادة الولايات المتحدة وأوروبا الغربية أثناء الحرب الباردة، والأدوات الإعلامية الموجهة إلى مواطني دول أوروبا الشرقية. في ذلك الوقت، كانت أوروبا تتبجّح بوحدتها في اطار الاتحاد الأوروبي، وبينما كانت أوروبا الشرقية تتمزق إلى دويلات، ضم الاتحاد الأوروبي معظم الدول الجديدة التي استقلت عن الاتحاد السوفياتي والاتحاد الروسي فيما بعد، في ذلك الوقت كانت أوروبا الغربية تتغنى بقدرتها على التعامل مع «المسألة القومية» لديها، عكس التجربة السوفياتية التي حاولت إلغاء العنصر الإثني القومي وصهره في اطار حزبي يحتكر السلطة بكل أبعادها.
تلك الحقبة، شهدت تحركات قومية لدى أوروبا الغربية، تمثلت بأوضح صورها في تجربة الانفصال الايرلندي الشمالي والحرب الدائرة بين بريطانيا والجيش الجمهوري الايرلندي، والتي حسمت بإخضاع ايرلندا الشمالية للحكم البريطاني، وكذلك تلك «الحرب الثورية» بين الباسك والحكم المركزي في إسبانيا، والذي حسم لصالح الدولة قبل عدة سنوات، كما شهدت تحركات أولية في شمال إيطاليا، وبعض الأقاليم الفرنسية، إلاّ أن تلك الحركات لم تصل إلى مرحلة «الثورة»، مع ذلك لم يكن ممكناً في ذلك الوقت انتقاد مدى نجاح الدولة الأوروبية في علاج المسألة القومية، باعتبار أن الديمقراطية الأوروبية توفر حلولاً للشعور القومي بحيث يمكن التعامل معه بنجاح.
في العقد الأخير، شهدنا انتكاسة حقيقية لمسألة وحدة أوروبا كهيكل جامع في اطار الاتحاد الأوروبي، بينما نشهد، ولا نزال، تمرد النزعات القومية في عدة بلدان أوروبية، ابتداءً من الاستفتاء في اسكتلندا للانفصال عن «بريطانيا العظمى» والآن تشهد ذلك التصدع الذي نتابع أخباره بعد إقرار برلمان كتالونيا الانفصال عن دولة المركز «إسبانيا» بعد استفتاء شعبي واسع في ظل رفض مطلق من قبل دولة المركز وبرلمانها، وحتى ولاياتها وشعوبها الأخرى!!
ومع أن محاولة كتالونيا للاستقلال باتت دليلاً على فشل الديمقراطية الأوروبية في دفن الشعور القومي، إلاّ أننا نعتقد أن أساس نمو هذه المشاعر يعود إلى أسباب عديدة من أهمها الشعور بالغبن الاقتصادي، حيث يوفر هذا الإقليم 23 مليار دولار لدولة المركز ويحصل على ثمانية بالمئة فقط من الناتج القومي، وفي ظل الأزمة الاقتصادية التي عصفت بإسبانيا واتخاذ مدريد تدابير اقتصادية صارمة تنفيذاً لمطالب الاتحاد الأوروبي، تفاقمت الأزمة الاقتصادية في الإقليم الذي بدأ يشعر بأنه يدفع اكثر مما يأخذ، ما شجع الدعوات للانفصال، توحد في تلك الدعوة اليمين واليسار بشكل عام والشعور بالغبن الاقتصادي، أنعش الإحساس بالقومية مع توفر اللغة والمصالح المشتركة.
ما يجري هذه الأيام في كتالونيا، من شأنه أن يحفز قوميات أوروبية أخرى على الانفصال، اسكتلندا في بريطانيا، والباسك في إسبانيا، وصقلية ومدينة التيرول الواقعة بين النمسا وإيطاليا، وكذلك إقليم فينشيو الإيطالي وعاصمته البندقية التي صوت مواطنوها مؤخراً بنسبة 89% على الانفصال عن إيطاليا، دون أن نتجاهل بعض الأقاليم الغنية في بلجيكا التي سيتخذ الاتحاد الأوروبي من عاصمتها بروكسل عاصمة لها، وعموماً ممكن ملاحظة شكلية في هذا السياق، وهي أن معظم القوميات الأوروبية الراغبة والطامحة في الانفصال عن دولها تقع شمال تلك الدول، وكأننا نؤكد مقولة متداولة حول فقر الشمال مقارنة بالجنوب، في معظم المقارنات وعلى كل المستويات!!
Hanihabib272@hotmail.com

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد