في كتاب المدينة الفاضلة في باب أفلاطون هل لا يزال معاصرا يقول:" تتوفر المقدرة على الزعامة وهؤلاء خلقهم الله من الذهب وهؤلاء يتوجهم أعظم الشرف، والبعض خلقهم من الفضة ليقوموا بأعمال المساعدين، والبقية خلقهم من النحاس والحديد وهم الفلاحون والمزارعون والعمال".

غزة الفقيرة يوجد فيها الليبرالي والعلماني والإسلامي والشيوعي والبرجوازي، ويوجد فيها الذهب والفضة والنحاس والحديد، وجميعهم مسخرون لخدمة تفاصيل حياتهم اليومية، من ذلك البرجوازي الذي يعيش بأمواله فصولا من التعاسة إلى الفقير الذي يعيش سعادته لحظات عند توفر التيار الكهربائي، كلهم سواء لا فرق، فهم يسكنون مدينة الظلام التي ينقصها الأشباح، ولكن ما يميزها أن مواطنيها يسيرون في شوارعها كالأشباح.

عاشت الثورة في قلوبنا ومات الثوار تباعا، حضرت القضية دوما على مائدة إفطارنا، في غصن زيتوننا في بسمة أطفالنا، في تجاعيد وجوه شيوخنا، في جمال وجوه نسائنا، تغيرت تفاصيل المائدة فبدلا من الزيت والزعتر أصبحت البيتزا والهمبورجر، وتقطعت أشجار الزيتون وسقطت من يد الختيار وأصبحت حطبا تأكله النار، واختفت البسمة عن أطفالنا وظهرت نتوءات هموم الوطن وفقره، وغاب جمال النساء في ظل سطوة مساحيق التجميل والانيستاجرام، ماتت الثورة وعاش الثوار يتزينون بأحلى الملابس وأفخم السيارات، وأشهر العمارات، واكبر المولات، وبات الوطن للثوار والوطنية للفقراء .

على   ذلك الشاطئ الجميل طائر النورس يحلق في السماء يبحث عن سمكة أو شبه سمكة، فلم يجد إلا روث الإنسان كان يظنه سمكه، غطس غطسته ففاحت ريحته، فهجرته عشيقته، فلا اصطاد سمكة ولا بقي بحسن المظهر، أصبحت رائحته نتنه، وخفت صوته، وراح ينادي من بعيد إلا يوجد بينكم رجل رشيد، يُطهر البحر كي اصطاد سمكة، أيها النورس المسكين أنت في المدينة الفاضلة، في المكان وليس ببعيد كان يراقب الصياد صنارته، لعلها اصطادت سمكة، حرك الصنارة ميمنة وميسرة وجرها ليكتشف أن صنارته علقت برسالة عاشقين مخبأة في زجاجة من سوء حظها ألقت بها المياه إلي المدينة الفاضلة.

يحمل الطفل الملتوي الذي يشبه العنكبوت أقدامه على كتفه ويسير بين الزقاق وصولا إلي ممر النجاة، يبحث عن اسمه في سجل الفائزين موسوعة غينس، هو على موعد بأن يحقق أحلامه، ينتظر تصريح الخروج، وينتظر أن يُ فتح باب الأمل ويغادر، ولكنه بقي ملتفا حول نفسه ينتظر.

في يده مشرط، وأمامه مريض تقترب أنفاسه على الخروج، حان وقت نومه، لا بديل عن الموت، عصافير بطنه تنادي، فمنذ عشر ساعات وهو واقف على أقدامه يجري عملية جراحية نوعية بأدوات ومعدات وتجهيزات لو كان لها لسان لنطقت " أنني تعبت من العمل معكم في المدينة الفاضلة"، كان المريض فقيراً، وكان الطبيب عبقريا، تماسك أكثر وأعطى نفسه حقنة من الصبر، واشتد عودة ومارس عمله وبقي أمامه لحظات ليعلن عن نجاح عمليته لولا أن انقطعت الكهرباء ولم يُبصر ذلك النجاح النور بسبب وجودنا في المدينة الفاضلة.

تعيش أمي وزوجتي وابنتي "ثلاثي الحب" في المدينة الفاضلة، لكل واحدة طموح أمي تريد أن تذهب لزيارة بيت الله في مكة، وزوجتي تحلم بقضاء أيام جميلة وهي تمشي على أقدامها في حدائق باريس، وابنتي تريد أن تصبح طبيبة أسنان لإصلاح أسنان أخيها، الأحلام مشروعة وممكنة إلا في المدينة الفاضلة، فهي كوابيس تطاردنا ليل نهار،لا قادرين على تحقيق الأحلام ولا قادرين على التخلص من الكوابيس.

أخيرا ... وجدت نفسي مرغما على العيش في المدينة الفاضلة بعد أن استمعت في صغري لخطبة ثورية دينية تقول: "عليكم بالصبر والصمود في أرض الرباط فهي مهد العزة ولا يمكن هجرانها وتركها للاحتلال، فنحن القادرين على تحريرها وإعادة بنائها فبصبرنا وصمودنا ومشعلنا وقوتنا ووحدتنا وتمسكنا بديننا وقرأننا نستطيع أن نهزم الاحتلال"، لقد حان الوقت أن نعترف أننا فقدنا البوصلة التي تؤدي إلى بناء الإنسان قبل بناء الوطن، وسخرنا من الوطن دجاجة تبيض ذهبا، وبنينا أعشاشنا في جرف هاوٍ، وجاءت الرياح بما لا تشتهي السفن، وأصبحنا عبئا على الوطن، فلا هو قادر على أن يتحرر ولا نحن قادرين على العيش فيه، وما شعارات الصمود والتحدي والصبر إلا لقلة الحيلة وعدم القدرة على التكيف والعيش في المدينة الفاضلة التي ارتسمت خريطتها بالدم وتعبدت شوارعها بالنفاق.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد