هناك من يعتقد أن «نهاية» داعش من زاوية التواجد العسكري في الجغرافيا السياسية سيؤدي إلى الدخول في مرحلة جديدة من الاستقرار السياسي المتدرج.
وهناك من يعتقد بالمقابل أن «نهاية» داعش بالمعنى المشار إليه ست فتح الأبواب على موجات جديدة من الإرهاب الأكثر توحشاً وحالات من الفوضى العارمة بسبب ما يمكن أن تقوم به مئات وربما آلاف الخلايا التابعة لهذا التنظيم من أعمال شديدة الخطورة في معظم بلدان الإقليم وربما بصورة أشد عنفاً وفتكاً في الساحات الغربية.
أغلب الظن أن كلا الرأيين صحيح، بمعنى أن المنطقة ستدخل مرحلة جديدة من الفوضى من جهة والعمل نحو الدخول والتمهيد لمرحلة الاستقرار السياسي ستكون هي الهدف وإليها ستتجه كل الجهود ومن أجلها سترصد الموارد من جهة أخرى.
ومهما كانت صحة أو دقة هذه الآراء فإن إجماعاً كاملاً بات مؤكداً ومشخّصاً وهو أن الارهاب بكل أشكاله المتوحشة والأقلّ توحشاً لم يكن ليصل إلى هذه الدرجة من القوة وهذه الدرجة من القدرة لولا أن مجتمعاتنا شكلت حاضنة لنمو وتكاثر هذا التوحش وهذا القتل والتدمير المؤسس على منظومات فكرية وثقافية ووعي «ديني» مشوّه، وهجين مفبرك بصورة منهجية ومنظمة ومسبقة الصنع والإعداد والتحضير والانتشار.
ويجمع كل خبراء العالم غير المنحازين ومفكري الأمة من أصحاب الفكر الحرّ والمستنير وقادة الرأي العام على أن هذا التوحش وهذا الارهاب الجديد الذي ترافق وتزامن مع ما اصطلح على تسميته بـ»الربيع العربي» لم يكن له أبداً ليصل إلى ما وصل إليه لولا أن مفاصل العلاقة بين المجتمع والدولة في كل دول الإقليم العربي ومحيطه الإسلامي كانت هشة، ورخوة، ولولا أن الخطاب الديني على مدى أربعة أو خمسة عقود كاملة كان «مواتياً» لهذا التكاثر وهذا الانتشار.
وعندما نتحدث عن الخطاب الديني وأثره في استفحال ظواهر التكفير والتطرف والارهاب المتوحش فإننا نتحدث عن مستويات عدة لأثر هذا الخطاب.
على مستوى أول، تحول بصورة جذرية تنظيم الإخوان من حالة الدعوة إلى حالة التنظيم، وهو أمرٌ أدى طوال عقود طويلة «ربما تزيد على الخمسة» إلى استنفار كامل للترويج لفكر الإخوان في نسخته القطبية.
وللمعلومات، أيضاً، فإن التنظيم الدولي للإخوان قد اتخذ في الخمسينيات من القرن الماضي قرارات استراتيجية للسيطرة بكل الوسائل وعَبر مختلف الأشكال والأساليب على أكبر عدد ممكن من وزارات التربية والتعليم في المنطقة، وعلى كل ما يمكن السيطرة عليه من المؤسسات الدينية الرسمية، وعلى كل المساجد والمنابر الدينية من أجل «تغيير» ما أحدثته الثورات العربية ذات الطابع القومي والتقدمي في الوعي الشعبي.
وقد سخّرت جماعة الإخوان لهذا التوجه كل إمكانياتها، واستعانت بالبلدان العربية التي كانت على خصومة مع الناصرية والمد القومي والشيوعي، وعقدت الأحلاف السياسية مع كل من كان على استعداد لخدمة هذا التوجه. وقد نتج عن هذه السيطرة وهذه التحالفات، ما يمكن اعتباره تغلغلا كبيرا للفكر القطبي على كل المستويات التعليمية، وخصوصاً على مستوى التعليم الديني في كليات الشريعة وغيرها في المؤسسات التي تعنى بالشأن الديني وبالخطاب الديني تحديداً.
وعلى مستوى ثان تحوّل الدعم المالي المنفلت لجماعة الإخوان إلى نوع من الاقتصاد السياسي للإسلام السياسي وتحول «الإسلام» من مرحلة الإسلام الاجتماعي الدعوي إلى «الإسلام» الاجتماعي المُمَأسس في جمعيات وكليات ومستشفيات وبنوك ومصارف ودور للمال والتمويل وشركات عملاقة في هذا الإطار.
وهنا تم الربط ما بين الفكر وما بين المصالح والاحتياجات، وهو أمر كبير الأهمية في إحداث ما يمكن اعتباره إنجازاً على صعيد التمكين للجماعات الإسلامية في كل المجالات.
وعلى هذا المستوى ظهر عشرات آلاف الخطباء وأئمة المساجد الذين لا يعرفون عن الدين الإسلامي شيئاً خارج اطار المنظومة الفكرية التي هي في جوهرها تكفيرية للدولة والمجتمع ولكل من لا يوافق على آرائهم.
أي أنه حصل إبّان المرحلة النفطية الاستقطاب في الوعي الشعبي. فإما  أنت مسلم ملتزم بخط الإخوان وخط القطبية، وإما أنت عدو للإسلام والمسلمين، وتحول الصراع الاجتماعي في كثير من البلدان العربية إلى نوع من الصراع على المسلك الاجتماعي، وليس المصالح الاجتماعية.
تشوّه الوعي الاجتماعي وحُصِرَ بالكامل بالسلوك وأصبحت المسلكيات هي عنوان أسلمة المجتمعات وتحويلها إلى رعايا وليس شعوباً لها وطن وهوية وقومية ومصالح وطنية مشتركة.
وبدأت في ثنايا المجتمعات العربية حملات وموجات من الحقد والضغينة للآخر والمختلف، وتحولت الطائفية والمذهبية إلى وعي (طبيعي) و»إسلامي» معتاد وممارس وكأنه من طبيعة الأشياء ومن صلب الدين وأصوله.
وعلى مستوى ثالث بدأت مع تفاقم أزمات النظام العربي التنموية والتحررية ومع تكريس الاستبداد والفساد تظهر مؤشرات التمرّد لدى الإخوان وشرعوا للإعداد النهائي لتسلم السلطة.
في هذه المرحلة خرجت جماعات وجماعات من داخل الإخوان وبدأت بالدعوة إلى العنف والإرهاب، وأخذت هذه الجماعات على عاتقها قيادة المرحلة الأفغانية والصدام المباشر مع الغرب، بعد انفراط الحلف بينها وبين الغرب مع انتهاء الحقبة السوفياتية وهزيمتها في أفغانستان متهمة جماعات الإخوان بإبطاء الهجوم.
في هذه المرحلة بالذات انتعشت بصورة غير عادية وكبيرة وواسعة أفكار التطرف والتدمير، وتحولت كل مؤسسات الإخوان السياسية والاجتماعية إلى سند لهذا الفكر وإلى داعم للإرهاب بصورة مواربة حفاظاً على الذات، ولم تقف من وجهة النظر الدينية للتصدي لكل جماعات التكفير والإرهاب إلا شكلياً.
وهكذا وقع العالم العربي ومعظم المجتمعات الإسلامية فريسة لخطاب ديني وتوعوي وتربوي متطرف شكل وما زال حتى الآن (مع الأسف) المَعِين الذي تعيش منه وتعتاش عليه هذه الجماعات على مستوى الثقافة السائدة لدى قطاعات واسعة.
لهذا فالداعشية في الوعي الشعبي هي عنوان المعركة الحقيقي بل ومرتكَز التصدي الحقيقي لهذا الفكر المتوحش.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد