ما هو واضح حتى الآن أن المصالحة ليست متحققة، وأن حركة حماس لن تترك الحكم في غزة وأن السلطة لن تعود الى غزة، وأن المعابر ستبقى مغلقة وأن الكهرباء ستستمر بالقطع، وأن الحياة ستتواصل بالتنقيط، وأن غزة تتضخم فيها أكبر مأساة إنسانية لفتت نظر كل العالم إلا القوى الفلسطينية التي تستمر في خلافاتها، فهي آخر من يعلم وآخر من يبالي.
تقارير الأمم المتحدة مثيرة للفزع، فقد أشارت سابقاً إلى أن غزة عام 2020 لن تصلح للحياة الآدمية، لكن الظاهر أن الزمن أقرب من ذلك، فإغلاق المعابر مستمر رغم الحديث الكثير عن الانفراج، والمياه الجوفية لا تصلح للاستخدام الآدمي، والبحر الذي لم يعد يصلح للسباحة وهو الميزة الوحيدة لهذه المدينة الساحلية أصبح ملوثاً بدرجة خطيرة، وهذا الصيف كان كئيباً وحزيناً بلا مصطافين وكانت سواحله مثل الصحراء.
الإسرائيلي بلا منافس هو سبب كل المآسي للفلسطينيين بالجملة وبالتقسيط في الكليات وفي التفاصيل، ولكن علينا ألا ننسى للحظة أن خلافات الفصائل هي من أوصل غزة إلى هذه الكارثة وحوّلها إلى منطقة جحيم تنعدم فيها الحياة، ومن المثير حقاً أن يظهر الإسرائيلي بصورة من يُشفق على غزة لأنه لم يتوقع أن تصل صراعات الفلسطينيين إلى حد قهر الإنسانية، ولأنه أيضا يعرف أنه من يدفع ثمن هذه الأزمة المتفاقمة هنا، والحقيقة هنا أن الأزمة تتفاقم بشدة وتضغط على الجميع للحل.
إسرائيل كما ذكر موقع «تايمز» ستعيد الكهرباء لغزة حسب رسالة من منسق شؤون المناطق يوآف مردخاي لوزير الشؤون المدنية، ويقول الموقع إن هذا القرار لاعتبارات إنسانية خطيرة، فيما أشارت القناة العبرية الثانية إلى أن إسرائيل في اجتماع المانحين بنيويورك ستقدم حزمة مساعدات وتسهيلات للفلسطينيين، منها ما يخص قطاع غزة بمشاريع تتعلق بالبنية التحتية وقطاعي المياه والكهرباء، وتلك تؤكد رسالة مردخاي بإعادة الكهرباء.
رئيس المجلس الإقليمي «شاعر هنيغف» «الون شوستر» نشر في هآرتس مقالا يشير للأزمة الإنسانية في القطاع وضرورة تدخل إسرائيل لحلها قائلا: من الصعب أن نبقى غير مكترثين بالفجوة الهائلة بين نوعية ومستوى المعيشة في مجتمعاتنا وتلك المجاورة لدى جيراننا في غزة خلف الحدود، ومع استعراضه لمظاهر مأساة المدنيين بغزة نتيجة الحصار يكتب «يتم يومياً تسريب 104 آلاف متر مكعب من مياه الصرف الصحي إلى البحر الأبيض .. صحيح أن معظم اللوم على الأزمة الإنسانية في قطاع غزة تتحمله سلطة حماس في سلوكها وتعاملها مع شعبها، لكننا كإسرائيليين نطالب بأن تضع إسرائيل قضية الأوضاع الإنسانية في غزة في صدارة جدول أعمالها».
ميلادينوف تحدث كثيرا عن المأساة الإنسانية وكثير من السفراء الغربيين الذين يزورون غزة لم يعودوا يتحدثون سوى عنها وعن مستوى الحياة، الشهر الماضي التقيت ثلاثة منهم، وكانت مجمل اللقاءات حول بند واحد فقط وهو الحياة في هذه المنطقة وكيف يمكن حلها وإن استمر الحال يسألون عن سيناريوهات المستقبل .. كل العالم بدا مهتماً إلا الفلسطينيين وتلك مفارقة طبيعية بعد التجربة.
لا أحد يتوقع أن ينتفض السياسيون الفلسطينيون رأفة بالمواطنين الذين أُلقوا نحو حتفهم في غزة، فماذا يعني في الثقافة العربية والتي نحن امتداد لها وفي العقل الفلسطيني، ماذا يعني أن يموت إنسان بالسرطان دون أن يجد علاجاً؟ وماذا يعني أن يحرم مواطن من الالتحاق بجامعته؟ وماذا يعني أن يصطف الشباب تحت الجدران في طوابير البطالة؟ وماذا يعني أن يتوقفوا عن الزواج ؟ وماذا يعني أن يصاب الناس بالاكتئاب والقلق والاضطرابات والخوف من المستقبل؟ ماذا تعني كل تلك المآسي وأكثر؟ وللنكتة أحياناً يتم نشر خبر عن نجاح دفاع مدني في الضفة أو في غزة بإنقاذ قطة علقت على شجرة، يا للإنسانية الزائدة والزائفة أمام ما يحدث هنا.
لن يكون هناك حل قريب لمأساة غزة، هذا الاستنتاج يمكن الوصول إليه ببساطة من خلال تجربة السنوات العشر لمحاولات المصالحة وتصلب حماس التي نزعت غزة من السلطة، وكذلك من لا مبالاة الأخيرة وبدلا من التخفيف من أزمة المواطنين تُفاقم تلك الأزمة من خلال الكهرباء والتحويلات والرواتب، والجميع هنا في غزة فقد ثقته بكل الأطراف، وبات السؤال الذي يحمله المواطنون المنهكون: ما هو المخرج؟ باحثين عن أي أمل سواء كان من مصر أو حتى من إسرائيل، وفي خضم ذلك تضاءل المشروع الوطني في منطقة اعتبرت دفيئته ومنبته ومخزونه الاحتياطي، هذا ما طرح السؤال هل كل ذلك مصادفة؟ هو سؤال التدرج الذي آلت إليه هذه المنطقة بانية المشروع الوطني كأنه وُلد في غزة وأن هناك قراراً بدفنه في غزة والجميع مشارك في عملية التأبين.. لا أحد بريء.
هنيئاً لـ «حماس» هذا الخراب الذي أحدثته على امتداد سنوات حكمها، وهنيئاً للسلطة بما وصل إليه شعبها في هذه المنطقة من دمار، إنها لحظة مدعاة للفرح أمام نشوة الحكم الذي يتحقق على جثث البشر وآلامهم، وليستمروا في حكمهم وفي حواراتهم العابثة والعاجزة وليستمر الناس في غزة محتضنين روايات الألم وأطفالهم الذين يبدؤون حياة مفعمة بالذل والانكسار.
لم يعد يتوقع أي من الغزيين أن يحل أي من هؤلاء مأساة غزة، لأن خبرتهم التي تتمثل أمامنا ولسنوات في الصراع والخلاف وصناعة الأزمة وفشل الحوار وعبث السياسة، وهذا الفعل السياسي لا ينتج حلولاً وليس من المصادقة أن كل ما تحقق في السنوات الماضية هو صفر كبير، سواء على مستوى الانجازات الوطنية أو على صعيد توفير حياة إنسانية كريمة للمواطن .. واضح نحن أمام مجموعة من الهواة وتلك ازمة الأزمات.
كيف الخروج من الأزمة ؟ .. البداية تتمثل بالتسليم بعجز الأدوات والوسائل القديمة والبحث عن شيء جديد، أما استمرار تجريب واستنتاج الفشل فيعني الحكم على غزة بالموت أو الهجرة الجماعية، وحينها سيكتب أحدهم لافتة على المعبر إن فُتح يوماً ما  ... «على آخر المغادرين إطفاء النور..»!
Atallah.akram@hotmail.com

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد