إنهم يجتمعون أمام آلاف الرجالِ في مدينةِ خانيونس جنوبَ قطاعِ غزة ، على طاولةٍ كبيرةٍ يجلسُ فيها رجالُ الإصلاحِ في المنتصفِ ويجلسُ أولياءُ الدم على طرفي الطاولة وأمامهم يجلسُ الوجهاءُ والمخاتيرُ وكبارُ شخصياتِ البلد، هذا المشهدُ الأكثرُ صعوبةً في حياةِ من فقدوا أبناءَهم جراءَ عملياتِ اقتتالٍ أو أحداثٍ مؤسفة، لحظاتٌ من الصمتِ لا يمكن وصفُها عندما تستمعُ إلي أبِ المقتولِ وهو يقولُ لقد  " صفحت وعفوت" عن قاتلِ ابني ابتغاءً لوجه الله وتحقيقاً للمصلحة الوطنيةِ العليا .

 هؤلاءِ الخصوم كان أبناؤهم يطلقون النارَ بعضهم على بعض في أحداثِ الاقتتالِ والفلتانِ الأمني الفلسطيني في عامي 2006-2007م، قبل سيطرةِ حركةِ حماس على زمامِ الحكمِ في قطاعِ غزة وهو ما يسمى اليوم " الانقسامُ الفلسطيني"، كان هذا الملفُ وما زال الصفحةَ الصعبةَ في تاريخِ العلاقات الاجتماعية ما بين العائلاتِ الفلسطينيةِ المترابطةِ اجتماعياً بشكلٍ كبير، وهو ما نجحت به مؤخرا " اللجنةُ الوطنيةُ الإسلاميةُ للتكافل" في فتحِ صفحةٍ جديدةٍ من صفحاتِ هذا الملف بتنظيمِ مصالحةِ مجتمعية ما بين العائلاتِ التي فقدت أبناءَها في أحداثِ الانقسام، وإصدارِ العفوِ والصفح وإظهارِ الكرم العربي الأصيل من عائلاتٍ فلسطينيةٍ لها تاريخٌ نضالي مشرف في مواجهةِ الاحتلالِ بالعفوِ عن قتلةِ أبنائها.

أحد عشرَ عاما من الجمودِ والقطيعةِ بين أولياءِ الدم، بقي الجرحُ دفينا في قلوبِ أصحابه إلا أن تلك الجروحَ انبرت بعد أن نجحت جهودُ لجنةِ المصالحةِ المجتمعية، وبجهودٍ مشتركةٍ من الفصائلِ الفلسطينية "فتح، حماس، الجهاد الإسلامي، والجبهتين الشعبية والديمقراطية"، والوجهاء والمخاتير، بإنهاءِ ملفات عددٍ من عائلات ضحايا الانقسام، بعد قَبُولِ أولياءِ الدم، بالعفوِ، والقَبُولِ بالديةِ المُحمدية، وَفقَ الشريعةِ الإسلامية.

بالفعلِ يمكنُ القولُ إن قطارَ المصالحةِ الاجتماعية قد انطلق، وأيضا يمكن القولُ إن الانقسامَ الفلسطيني سيكون مصيرُه الزوالَ، فمع مرورِ الأيام ستنتهي حياةُ الانقسام من نفوسِنا في قطاعِ غزة، لأن الانقسامَ وقعَ على أرضِنا ونحن مَن دفعَ ثمنَه السياسي والاجتماعي والاقتصادي، ونحن من نعيشُ الحصارَ والإغلاقَ بسببِه، ونحن من فقدنا أطفالَنا ونساءَنا في ثلاثِ حروبٍ متتاليةٍ على قطاعِ غزة، وأيضا نحن من يمنعُنا الاحتلالُ وغيرُه من السفرِ لتلقي العلاجَ، ونحن وحدنا في غزة من نتحملُ وصولَ أربعِ ساعاتٍ من الكهرباءِ في اليوم، ونحن لدينا شاطئٌ جميلٌ ملوثٌ بمياهِ الصرفِ الصحي ولا يصلحُ للسباحةِ، ونحن لدينا جميعُ مقوماتِ الحياةِ والموتِ في آنٍ واحد.

لقد اغتسلت تلك العائلاتُ من نهرِ الوطنِ العظيمِ وتطهرت من ذنوبِ " الأخذِ بالثأر" وتم تغليبُ المصلحةِ الوطنية على المصالحِ الفردية، وتم اقتسامُ خبزِ الوطن بين تلك العائلات، لتكونَ نموذجاً وطنياً يحتدا به في الأيامِ القادمة، من أجل أن يصلَ قطارُ المصالحةِ محطاتٍ أخرى وبيوت فلسطينية أخرى عاشت الانقسام وذاقت مرارته. 

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد