والد شهيد مقدسي: خسارة ابني كسرتني والفرحة بأداة الحج اعادت التوازن لنفسي
منى/سوا/ بين ليلةٍ وضحاها، وفي تلك اللحظة عندما أصيب الشاب محمد ذو الـ 17 ربيعاً، الابن الأكبر للحاج محمود لافي، برصاصة أطلقها عليه جنود الاحتلال الإسرائيلي أمام المسجد الأقصى في مدينة القدس المحتلة، ما اضطر مسعفيه إلى نقله لمركز صحي مجاور يفتقد إلى الإمكانات الكافية لعلاجه، لينقل إسعافياً لمستشفى كان مقدراً له أن تكون غرفة العمليات فيه آخر عهد له بهذه الدنيا، فقد استشهد محمد وسط ذهول والده الواقف خارج الغرفة، وبانتظار طبيب من أولئك المذعورين في دخولهم وخروجهم من وإلى تلك الغرفة، أو أي شخصٍ في ذلك المستشفى كله، ليخبره بخبرٍ يطمئنه على فلذة كبده.
طال انتظار الوالد محمود لافي خارج الغرفة، والحال أصعب من وصفه، فكانت الآمال والتفاؤل والتطلعات تتضاءل مع كل ثانية تضاف إلى ساعات الانتظار، الأمر الذي أدخل الأب المفزوع في حالة انزعاج، انفجر بعدها على طبيب آخر همّ بدخول غرفة العمليات، لكن الإجابة لم تك قطعية، إلا أنها مفيدة إلى حدٍ ما، فقد كانت تحمل نبأً لا يدعو للتفاؤل ولا الأمل ولا التطلع بجميل في قادم الأيام، فوضع محمد أخطر وأصعب من القدرة على إنقاذه.
في تلك اللحظات بحسب الأب المفجوع، فقد سكنه هدوء غريب وغير متوقعٍ البتة، لما عرف عنه بسهولة انفعاله تجاه ما يزعجه أو لا يعجبه، لم يكن الحاج محمد يتوقع أبداً أن يرافقه الهدوء والانكسار حتى الآن، ولا أن يفتقد لل حماس تلك السمة المعروفة عنه، بل ومن أكبر سماته، إلا أن حالة زهدٍ وقناعة وعزلة كانت بديل تلك السمة، فقد كانت السمات والصفات الجديدة بذات القوة والتأثير في شخصية محمود، فما عاد يغريه شيء في هذه الدنيا التي يصفها بقوله: "قبل استشهاد محمد بعشرة أيام، كنّت وأمه الأسعد على الإطلاق، فقد أنهى المرحلة الدراسية بنجاحه في التوجيهي ، وبنسبة (86%)، مؤكداً لنا براعته بخوض التحدي والفوز في النهاية، لاسيما وأنه لم يتجاوز (60%) تقريباً في نتائج امتحاناتٍ سبقت هذه الامتحانات بأشهر قليلة، وهذا أزعجنا كثيراً، واتفقنا على التخلي عن فكرة دراسته وجدواها، وأطلعناه على هذا الاتفاق، الذي كان من المفروض أن يسعده، لكنه كان مع الضد تماماً، ورفض اتخاذ قرارات تخصه، وأثبت ذلك في نهاية المطاف".
وتابع: "محمد أثبت لوالده أمراً أعمق وأهم وأكبر، وكل والدٍ يقرأ في شخصية أبنائه أموراً لا يراها غيره، لقد أصبح محمد رجلاً يعي معنى المسؤولية، ويتحمل نتائج أخطائه ويلتزم بكلمته، وهذه صفات الرجال، وهذا الموقف فتحت لي نافذة أملٍ كبيرة، وعشم بنجاح مهمتي لإعداده فيكون مساندي وعضدي، وحلم بات على مقربة من التحقق، فقد حان الوقت لأترجل عن صهوة جواد مسؤولية كبيرة، باتت أصعب وأكبر مع تقدمي بالعمر، وجاء الوقت الذي اسلم فيه الرية له، وأكتفي بالإشراف عليه وتوجيهه، ليصل بنا نحن والديه وأخواته وأخيه إلى بر الأمان، وضمان استقرار أكبر".
هنا توقف الحاج محمود لوهلة-وأطبق راحتي يديه ببعضهما-ثم كشف عن سبب كل ما طاله من تغيّر، بقوله: "خسارة ابني كسرتني، وفي هذا التوقيت بالتحديد، لأنني لم أعد قادراً على العودة من جديد إلى مراحل أبعد من قدرتي على الرجوع إليها، لأن أبني الأصغر، يبلغ من العمر 6 سنوات فقط، مما يصعب من مهمة لا يمكنني إهمالها أو تجاهلها أو التعاطي معها بجهد أقل من ذات الجهد الذي بذلته سابقاً مع أبني الأكبر، ولكني أحتاج إلى وقتٍ أطول، فاستشهاد محمد لا يزال حديث الكثيرين، فلم يمض عليها سوى 40 يوماً".
وعن حضوره للحج بدعوة من البرنامج ليكون ضمن ضيوفه من ذوي شهداء فلسطين، قال: "فريضة الحج، كانت الحالة الوحيدة التي استطاعت إخراجي من منزلي، لأكون هنا اليوم، فالفرحة بها والفرحة بأدائها ومن ثم إتمامها، سيكون ذا أثرٍ كبير علينا، سنستعيد توازننا بالمنزل، وهذا بالتحديد ما سأدعو به الله ليتحقق، وسأدعو لابني الأكبر بالرحمة وأن ينزله الله منزل الصديقين والشهداء، وسأتضرع إليه بأن يعوضني أخاه وأن يعينني سبحانه وتعالى على تربيته وتوجيهه ليكون السند والعضد بعد الله، وأسأله جل وعلا أن يوفق الملك سلمان لما فيه خير شعبه والشعوب العربية والإسلامية، وأن يمد في عمره، لقد قوبلنا بحفاوة أكبر من أن يقال عنها كرم، وشعب المملكة تجاوز الكرم فيما رأيت، لذا شكراً من الأعماق".