باستثناء مشروع الاستفتاء الذي ما زال البرزاني يصرُّ عليه حتى هذه اللحظة فإن مشاريع الانفصال التي بدت في مرحلة من مراحل "الربيع العربي" وكأنها قدرٌ لا يُردّ ولا يُصدّ تبدو في مرحلة الاضمحلال التام والاحتضار النهائي. 
مشاريع الانفصال كانت ولا تزال جزءاً محورياً من استراتيجيات منظمات الإسلام السياسي على اختلاف مشاربها حتى وإن كانت منظمات الإسلام السياسي التي تنهج التطرف هي الأكثر وضوحاً وسفوراً في الواقع الذي أفرزته مسيرة هذه المنظمات في السنوات الأخيرة تحديداً.
مشاريع الانفصال لا تعفي أنظمة الفساد والاستبداد العربي من المسؤولية المباشرة عن توفير الحجج والذرائع لمنظمات الارهاب والفاشية الدينية، ولكن الحقيقة هي أن هذه المشاريع قد تم إعدادها في مراكز القرار السياسي في الغرب وفي وزارات الخارجية والدفاع في هذه البلدان، إضافة إلى أنها (أي المشاريع) قد خضعت للدراسة والبحث والتمحيص في مراكز الدراسات، المهم هنا هو أن إسرائيل كانت ولا زالت محركاً رئيسياً لهذه المشاريع وهي ترى أن هذه المشاريع بالذات تشكل أكبر طوق نجاة للمشروع الصهيوني برمته.
الحركة الصهيونية فقدت بريقها الثقافي والفكري منذ سنوات طويلة وأصبح المشروع الصهيوني في موقع المحاسبة والمساءلة منذ سنوات، وتحولت صورة الدولة الإسرائيلية على مدى زمني طويل من الدولة الضحية المحاصرة والمهددة من قبل (العرب) إلى دولة عدوانية وتوسعية وعنصرية، وأصبح المأزق الحقيقي للدولة الإسرائيلية اليوم هو استحالة تعايش المحيط العربي مع هذه الدولة مع استمرار طبيعتها العدوانية والاستعمارية والعنصرية.
ولأن التاريخ قد أثبت أنه يستحيل العيش في جو عدائي والتعايش مع العدوان والظلم للأبد فقد باتت إسرائيل أمام سؤال "حل" هذا المأزق. وبما أنه يستحيل، أيضاً، أن تكون دولة يهودية (بعد أن تم قومجة الدين اليهودي) وديمقراطية، كما يستحيل قبولها في المحيط العربي، على هذا الأساس فقد أصبح "لزاماً" الذهاب باتجاه معين كخيارين لا ثالث لهما:
فإما أن تتغير إسرائيل لتنسجم مع المحيط، أو أن يتغير المحيط لينسجم مع طبيعة الدولة الإسرائيلية.
عملت إسرائيل منذ سنوات وسنوات وبذلت جهوداً كبيرة باتجاه تغيير الواقع المحيط وإرغامه على القبول بها دون أن يحدث فيها أي تغيير حقيقي.
اعتبرت إسرائيل ومعها اليمين في أوروبا، وكذلك معظم الدوائر المتنفذة في الولايات المتحدة أن "الربيع العربي" هو الفرصة التاريخية المواتية لتغيير المحيط العربي وإنشاء دول انفصالية تقوم فيها الفكرة الرئيسية وهي الانسجام ما بين الدولة والأمة والعرق أو الدين أو الطائفة، وبذلك فإن قيام هذه "الدول" يعني في الواقع الانتصار (الأخلاقي) وكذلك السياسي النهائي للمشروع الصهيوني، بل وتجديد شباب هذا المشروع، لأن إسرائيل مع قيام هذه الكيانات تصبح دولة طبيعية وتتحول إلى كيان طبيعي، بل وإلى كيان ودولة مسيطرة وذلك بالنظر إلى حالة التفوق التي تمثلها في الواقع وفي معظم المجالات الرئيسية.
إذن، مشاريع الانفصال سواء كان لها بعض الحجج والذرائع أم لم يكن، وسواء كانت مسؤولية الواقع العربي كبيرة أو صغيرة هي في الواقع حالة استجابة كاملة للمشروع العربي والمشروع الصهيوني بغض النظر عن درجة تورّط منظمات الارهاب والفاشية الدينية بها أو حتى معرفة بعض هذه المنظمات بالأهداف الغربية والصهيونية أو عدم هذه المعرفة.
المهم في الأمر هنا أنه باستثناء هام للغاية للإسلام السياسي في المغرب وكذلك تونس إلى حد ما فإن منظمات الإسلام السياسي في شقيها "المعتدل" والمتطرف قد وقعت في هذا الشرك أو أنها ارتضت لنفسها القيام بهذا الدور.
مياه كثيرة جرت في نهر "الربيع العربي"،  وجرفت تلك المياه الكثير من الأوساخ والنفايات وتحولت حالات الانفصال "المنشودة" التي تعيش آخر أيامها في المنطقة العربية.
فقد تم محاصرة الانفصال في اليمن وليبيا وسورية، ولم يعد لمشاريع الانفصال من أثر يذكر في المغرب وانتهت المسألة إلى غير رجعة في مصر وتونس، وهي ليست على جدول أعمال أحد في الخليج العربي، وحتى في العراق فإن مشروع الانفصال الكردي ما زال يراوح بالرغم من كل ما يبدو عليه من توجه "جاد".
هذه مشاريع إسرائيلية وأميركية بما في ذلك محاولات شق وحدة الدولة الوطنية التي تقف وراءها المصالح الإيرانية والتركية، وهي مشاريع احتياطية للغرب وليس للعرب فيها أية مصالح وطنية أو قومية أو دينية أو سياسية أو ثقافية.
الانفصاليون أنفسهم سيذبحون بعضهم بعضاً، وهم اليوم في حالة احتراب مستتر، وغداً سيتحول هذا الاحتراب إلى حروب طاحنة بين كل هذه التيارات المتعددة الانتماء والمشارب والتبعيات.
لا أمل في أن ينتصر أحد من الانفصاليين على الدولة الوطنية في هذا الإقليم بغض النظر عن الكثير الكثير من مظاهر العجز والتخلف والتسلط لهذه الدولة.
المسألة ببساطة هي أن الدولة تعني وحدة المجتمع في مواجهة التهتك والتشتت والعبث.
الدولة الوطنية في بلادنا تعاني من ألف مشكلة لكن مشكلة واحدة من المشاكل التي تترتب على غيابها هي بحجم كل المشاكل وأكبر.
الدرس هو أن يتعلم كل الانفصاليين الدرس الذي أفرزه "الربيع العربي"، وهو أنهم (أي الانفصاليين) ليسوا أكثر من ورقة في لعبة الغرب، وهم لن يتمكنوا حتى من الحصول على "شرف" التحول إلى أداة.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد