تشبه السياسة الفلسطينية المسلسلات التركية في حبكاتها الهشة والسطحية ومقدرة السيناريو والحوار، ومجارات التطورات التي يكون المشاهد منذ الحلقة الأولى تنبأ بها. ليس لأن الدراما مبنية بشكل جيد، ولكن نمطيتها وتكرار النمطية والخلو المتعمد من العمق، كله يجعل تطور الأحداث أمراً في متناول المشاهد الذي لا يريد ربما أكثر من تزجية وقته. لكن في السياسة فإن تزجية الوقت هي هدر للطاقات الوطنية وتضييع للمصالح العليا وتخريب للقدرات التي كان يمكن وضعها في أماكن أكثر جدوى وأخصب نفعاً. والسياسة الفلسطينية لا تختلف في هذا السياق كثيراً، فالحالة الوطنية تشبه أحد تلك المسلسلات الرديئة التي يمكن مشاهدتها من أجل مشاهدتها فقط.
صحيح أن الشعب الفلسطيني يواجه منذ أكثر من قرن أكبر عملية تطهير وإحلال في التاريخ، وهو خلال نضاله بما أوتي من قوة بسيطة نجح على الأقل في منع اندثاره وزواله كما جرى مع الكثير من الشعوب التي تمت بحقها عمليات التطهير العرقي وتم استباحة بلادها وتأسيس كيانات جديدة مثلما هو الحال مع مواطني أميركا الأصليين، وصحيح أنه رغم كل المؤامرات والخذلان والوحدة التي ترك فيها معزولاً، إلا أنه نجح في تطوير هويته الوطنية وجعلها نقيضاً صريحاً للمشروع التصفوي الهادف إلى إبادته، وهو في سبيل ذلك دفع الغالي والنفيس وما زال، وتشرد في كل بقاع الأرض بحثاً عن طريق آمنة لعودته. لكن الحالة الفلسطينية الراهنة تبدو في أوهن لحظاتها فالانقسام الفلسطيني الذي نتج عن أحداث حزيران 2007 الدموية يواصل حضوره بقوة في السياسة الفلسطينية، بل ربما يصعب تخيل الوضع الفلسطيني الراهن دون هذا الانقسام. وأبعد من ذلك فإن الحديث عن المستقبل الفلسطيني لا بد من أن يشمل في طياته البحث عن تداعيات الانقسام. كما أن مفاوضات المصالحة الوطنية (ليست حواراً بل مفاوضات) كلها تدور حول التكيف مع الانقسام وما أفرزه من وقائع، وحتى اللحظة لم يتم تقديم مقاربات جريئة للقفز عن هذا الواقع المرير. كما أن مجمل ما يسمعه المواطن من تصريحات تتعلق بالحالة الوطنية تدور حول الانقسام وتعكس، ربما دون قصد من قائليها، قوة حضوره في السياسة اليومية، ليس حاضرها فقط بل مستقبلها.
وتكشف الأوضاع في القدس عن المزيد من وهن الحالة الفلسطينية وانخفاض مستوى التفاهم الفلسطيني الفلسطيني. فبعض تصريحات مسؤولي التنظيمات بحاجة لساحر وعرّاف حتى يستطيع المتابع أن يفهم منها شيئاً. فالكل يدعو للحوار والتفاهم وتوحيد الجهود، حتى يظن المرء أن الجهود ذاتها هي التي ترفض أن تتوحد، أما القائمون عليها فمساكين يسعون لتوحيدها وهي ترفض. شيء يشبه مسرح بيكيت وأونسكو، أحداث تدور بلا معني وتصريحات تطلق بلا فائدة. الأمر يبدو أكثر بساطة مما يمكن لسعاة الشر أن يقصدوا. فلو أن الحديث يدور عن أزمة في جزر القمر أو في الطرف البعيد للكوكب، ومطلوب موقف فلسطيني تجاهها لما تلعثمت الألسن هكذا ولما تبعثر المنطق بهذه الطريقة.
الجانب الأهم في ذلك تكشّف بصورة أكثر جلاءً في ردة فعل التنظيمات على الأوضاع في القدس. فما يجري في القدس يخصها وحدها. لاحظوا أن ردة الفعل الصادرة من غزة كأنها صادرة من عاصمة عربية مجاورة: تهديد ووعيد واستنكار وشجب وفي أحسن الحالات مسيرات غاضبة. القدس متروكة وحدها أما نحن فأقصى ما يمكن أن نفعله هو أن نعلن تضامناً. لأول مرة في التاريخ يتضامن شعب مع نفسه، ولأول مرة، في الممارسة النضالية، يكون ردة فعل الجماهير والنخب السياسية على ما يجري في عاصمتها وأقدس مكان لديها هو الغضب والخروج في مسيرات تهتف وتصرخ.
لنعترف بأن أحد أبرز نتائج الانقسام لم يكن فقط الفصل المؤسساتي بين الضفة الغربية وقطاع غزة، إذ إن مثل هذا الفصل قد يبدو طبيعياً مثلما هو الحال عقب أي انقلاب عسكري تقوم به أي جهة ينتج عنه سيطرتها على بقعة من الجغرافيا. لكن ما نتج عندنا أمر أكثر عمقاً. أيضاً أعمق من تطور الهوية الفرعية لغزة وتعزيزها حتى في الإعلام العربي الذي يعشق كلمة "غزاوي" أو "غزي" من باب إبراز بطولات كبيرة على حساب تراجعات أخرى. وأكثر عمقاً من غياب البوصلة الموحدة للنضال التحرري وظهور بوصلات عدة تهدف في المحصلة إلى "أقلمة" ومحلية النضال على حساب النضال الكبير.
أخطر ما حدث ربما مرتبط بالنقطة السابقة، فالنضال الفلسطيني بات تضامنياً ولم يعد مصيرياً. بمعني أن ما يجري في القدس يخص أهل القدس وحدهم وعليهم أن يجدوا طريقة من أجل مواصلة نضالهم. تتذكرون كيف أن تفاهمات وقف إطلاق النار عقب العدوان الأخير على غزة لم تشر بأي حال إلى ما يجري في القدس أو الضفة بل اقتصرت بشكل كامل على أحداث غزة. علينا أن نتذكر الخطاب الإعلامي حول "الحرب على غزة" وعدوان إسرائيل على غزة. إسرائيل منذ فجر المشروع الاستيطاني الصهيوني الأسود تعتدي على الشعب الفلسطيني وتحاربه، ولم تتوقف يوماً عن ذلك. هكذا يجب أن يكون لسان حالنا.
عموماً، حتى على مستوى تنسيق ردات الفعل فهي غائبة، وربما تتحول الدعوات الإيجابية لتوحيد الجهد إلى مناطق اشتباك إعلامي ومقارعات سياسية تحرف بوصلة النضال العسير ولكن البطولي الذي يخوضه المقدسيون.
مسلسل لا ينتهي ولا يتوقف من التصريحات والمواقف والمزاودات، فيما الفعل الحقيقي المطلوب غائب، وفيما الجهد الحقيقي الذي يجب أن يكون معطل بشكل كامل. عموماً سمة المسلسلات أنها صنعت من أجل أن يشاهدها المتفرج. لكن حتى المسلسل الرديء فإن القائمين عليه يسعون لجعله جذاباً للمتفرج حتى يواصل مشاهدته. وبكلمة أخرى حتى لا نصل لزمن يفقد المواطنون فيه ثقتهم بالسياسة وبالفعل السياسي وبقدرتهم على التغير، وقتها نكون ارتكبنا الجرم الأكبر.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية