عَقَدَ المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية ـ مدار ـ لقاءً مهماً يوم الأحد الماضي الموافق 9/7/2017 لمناقشة واستعراض الوثيقة التي أعدها فريق البحث على مدى عامين كاملين وبمشاركة مجموعة كبيرة ولامعة من الباحثين.
طرحت هذه الوثيقة المهمة (بغض النظر عن أي آراء حولها، أو حتى التحفظات على بعض مضامينها، والاختلاف حول بعض منطلقاتها وربما مفاصلها) الكثير من القضايا التي تعتبر بكل المقاييس جوهرية وملحّة وذات طابع راهن وضروري في الوقت نفسه.
لم يكن الوقت «كافياً» للمدعوين لمناقشة وثيقة بهذه الأهمية وبتلك المفاصل والعناوين، ولذلك فإن الأمر يحتاج على ما يبدو إلى تسجيل بعض الملاحظات التي من شأنها إغناء الحوار حولها، وخصوصاً الاستخلاصات التي خرجت بها.
أولاً: خلصت الوثيقة إلى نتيجة مفادها أن برنامج حل الدولتين قد وصل إلى طريق مسدودة بسبب السياسات التي تقودها حكومة التطرف اليميني في إسرائيل مقابل وصول برنامج المساواة إلى نفس الطريق ولنفس السبب.
بغض النظر عن صحة هذه الخلاصة أو دقتها فإن السؤال الذي يطرح ـ في هذه الحالة ـ : هل كانت العلاقة بين الفلسطينيين على جانبي «الخط الأخضر» ستختلف كثيراً أو قليلاً لو أن هذا الانسداد كان أقل أو أكثر؟
أقصد هل توجد علاقة سببية مباشرة بين درجة الانسداد وطبيعة العلاقة أو مستواها أو أشكالها أو أُطرها؟
أليست هذه العلاقة في الواقع علاقة ضرورية وصحية وربما صميمية في حالة الانسداد وفي كل حالة؟
ثانياً: إذا كانت العلاقة ضرورية وملحة وراهنة ـ وهي كذلك فعلاً ـ فهل ان سبب هذه العلاقة هو «الأزمة» التي يعيشها البرنامجان (برنامج الداخل وبرنامج الأرض المحتلة) أم ان القضية الفلسطينية هي قضية واحدة من حيث الجوهر، وان «الاختلافات» القائمة ـ برنامجياً ـ في التجمعات المختلفة هي تجليات خاصة نابعة من اختلافات الواقع والموقع وليس من اختلافات في ذات القضية؟
دعونا نتصور للحظة أن إسرائيل قررت «الانسحاب» من طرف واحد من بعض مناطق التجمعات الفلسطينية وجسّدت على الأرض وبصورة «نهائية» نظام الكانتونات المعزولة، وتركت لتلك المعازل هوامش أوسع للحركة الاقتصادية، ورفعت يدها عن الكثير من القيود التي تمارسها اليوم في الضفة المحتلة مقابل تشديد القبضة على أهلنا في الداخل وصولاً إلى حالة من الأحكام الخاصة العسكرية أو شبه العسكرية باعتبار أن الغالبية في إسرائيل ترى في الأقلية الفلسطينية هناك الخطر الأكبر على دولة إسرائيل... فهل هذا ممكن أولاً؟ وإذا كان ممكناً ـ وهو كذلك ـ فماذا سيتغير في العلاقة على جانبي «الخط الأخضر»؟ وهل يمكن أن تتطور العلاقة إلى أشكال جديدة ثانياً؟ وهل يمكن أن تحصل عملية اندراج وربما اندماج وانصهار ـ برنامجي ـ ثالثاً؟ أقول كل ذلك للتفكير وليس للتقرير وبهدف واحد وحيد وهو أن الاستنتاج الآخر الذي خرجت به الوثيقة حول «الفصل» بين ما هو سياسي وما هو وطني هو ثغرة منهاجية أكثر مما هو تدبير إجرائي.
ولذلك كله فإن النقاش حول الوثيقة ربما يحتاج إلى التعمُّق أكثر في المقولة التي كانت ترى في وحدة الأرض والشعب والقضية واحدة من أهم مرتكزات الفعل الوطني الفلسطيني الشامل، وان العلاقة على جانبي «الخط الأخضر» تحتاج إلى ناظم من هذا النوع لكي يتحول السياسي إلى حالة إجرائية في حين يبقى الوطني حالة ارتكازية، وليس إلى حالتين مختلفتين أو متعارضتين أو منفردتين.
أما الأهم في أعمال هذا النقاش فكانت المداخلة الشجاعة التي استمعنا إليها من الأستاذ أيمن عودة.
ولأن الأمر يحتاج إلى مقالات ومقالات ـ وذلك بالنظر إلى الأهمية التي انطوت عليها تلك المداخلة فإنني سأعرض هنا جوهر الأمر وأبعاده وأهميته المحورية في هذه المرحلة. جوهر المسألة هنا هو أن التحولات التي شهدتها وتشهدها إسرائيل باتت تحتم على الأطر والهيئات والنخب الوطنية إلى جانب التمسك الكامل بالكفاح من أجل المساواة الذهاب إلى تحالفات جديدة مع أحزاب وقوى كانت ـ وربما ما زالت ـ تصنّف على أنها صهيونية وذلك لدرء أخطار تفشّي العنصرية وبعض مظاهر الفاشية وهي أخطار لم تعد تهدد الأقلية العربية وإنما يمتد هذا التهديد إلى فئات وقوى ومنظمات سياسية وثقافية متزايدة من الإسرائيليين اليهود، وان إقامة هكذا تحالفات إلى هذه الدرجة أو تلك، بهذا القدر أو ذاك أصبحت مسألة ملحّة وممكنة.
أي أننا في الواقع أمام محاولة شجاعة للوصول إلى بناء جبهة ديمقراطية واسعة لمواجهة التطرف والعنصرية من أجل الديمقراطية والمساواة ومن أجل إنهاء الاحتلال والتصدي لكل منظوماته، بقدر ما هو ممكن ومتاح.
لا يمكن أن يكون التوجه السياسي في أية مرحلة في الواقع الفلسطيني بمعزل عن التحولات العميقة التي طرأت على الواقع الإسرائيلي، ولا يمكن تصور عمل وطني وكفاحي ناجح مجرداً عن تلك التحولات. 
وعندما نتحدث عن التحولات وعن الأزمات التي تولدت عنها، وعن الانسدادات التي أفضت إليها فنحن في الواقع نتحدث عن الأشكال والسبل والوسائل التي من خلالها يجب أن نواجه هذه التحولات.
هنا تبرز الأهمية التي دعا إليها الأستاذ عودة.
بالأساس هذه مسألة ضرورية إذ لا يمكن اعتبار العامل الإسرائيلي الداخلي إلاّ واحداً من أهم عناصر ومكوّنات ميزان القوى، ولا يمكن تغيير ميزان القوى بمعزل عن هذا العامل. هكذا كان الأمر في الجزائر وكذلك في فيتنام، وهكذا كان الأمر دائماً وأبداً، وهو كذلك اليوم في الحالة الفلسطينية سواء من أجل معركة المساواة أو معركة الاستقلال الوطني.
مفتاح الحل المتوازن هو بالضبط ذلك القدر من التحول المضاد للتحولات العنصرية والعدوانية في إسرائيل، وقد يكون هذا المفتاح بالذات هو الأكثر نجاعة في المواجهة وربما يكون الممكن المتاح بالمقارنة مع التغير في ميزان القوى الذي يفترض أن يتوفر عربياً ودولياً وقبل كل هذا وذاك داخلياً.
الحقيقة أن الأمر ما زال في بدايته وهو يستحق كما يحتاج إلى المزيد من المناقشات، إذ إن هذا القدر من الحنكة والشجاعة يحتاج إلى قدرٍ موازٍ من الاهتمام والمثابرة والمسؤولية في دعم وإسناد إبداعات كثيرة من هذا النوع.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد