حتى خروج هذا المقال إلى النور قد تكون دولة داعش في سوريا والعراق بعد معركة الموصل وقرب بدء معركة الرقة قد انهارت وانتهت فعلاً أو على وشك الانهيار خاصة بعد تردد الأخبار حول مقتل إبراهيم السامرائي المُلّقب بأبي بكر البغدادي. بعد أن ملأت الأرض شراً وقبحاً، وأهلكت الحرث والنسل، وهدمت الحجر والشجر، وأفسدت في البر والبحر، وسفكت الدماء... ذلك بأنهم قد شربوا من خلطة خُلاصة الشر التي أعدها الشيطان لهم فأُشربوا في قلوبهم الغلظة والقسوة، وفي عقولهم الجهل والحمق، وفي نفوسهم الحقد والغل، وفي سلوكهم الفظاظة والجلافة... كيف لا وقد تنبأ الإمام علي- كرم الله وجهه ورضي عنه- بظهورهم في آخر الزمان عندما قال عنهم مقتبساً من نور النبوة "...قُلُوبُهُمْ كَزُبَرِ الْحَدِيدِ هُمْ أَصْحَابُ الدَّوْلَةِ ، لا يَفُونَ بِعَهْدٍ وَلا مِيثَاقٍ ، يَدْعُونَ إِلَى الْحَقِّ وَلَيْسُوا مِنْ أَهْلِهِ ، أَسْمَاؤُهُمُ الْكُنَى ، وَنِسْبَتُهُمُ الْقُرَى ، وَشُعُورُهُمْ مُرْخَاةٌ كَشُعُورِ النِّسَاءِ ...".
وإن كانت دولة داعش على وشك الفناء والتبدد بعد زمنٍ من البقاء والتمدد، فهي لم تنتهِ ولن تنتهي بالتأكيد كتيار فكري وسياسي متغلغل في عمق تراثنا التاريخي منذ إشهار الخوارج السيف في وجه الخليفة الراشد الرابع بعد أن كفّروه ثم استباحوا دمه فقتلوه، بل وكفّروا كل من لا يرى رأيهم ولا يؤمن بمذهبهم من الأمة، فحملوا متلازمة التكفير والتقتيل، فذهبت سُنّة شريرة إلى يومنا هذا، فحملها الأشرار والجُهّال من الأمة، وتوّلى كبرها كل أفاكٍ أثيم، وتجسّدت في مذاهب شتى اختلفت أسماؤهم وتشابهت قلوبهم، تنوّعت راياتهم واتفقت أهدافهم... فأصبحوا هم وأنظمة الاستبداد صنوان لا يفترقان، ووجهان لا يختلفان، أحدهما يحمل التطرف الديني في أبشع صورة، والآخر يحمل الاستبداد السياسي في أسوأ مناظره.
ودولة داعش وإن كانت على وشك الزوال من واقعنا، فهي لا يمكن أن تزول بسهولة من عقولنا، ففي عقل الكثير منا داعش، أو بالأحرى منهج التفكير الذي تمثله داعش في أسوأ تجلياته البشعة، وهو منهج موروث يملأ صفحات فكرنا الديني والسياسي منذ مئات السنين، وإلاّ ما الذي يُفسّر انتشار بعض سمات الداعشية في أحزابنا ومذاهبنا ونمط تفكيرنا مثل: أُحادية الرؤية التي لا ترى الحق والصواب إلاّ من زاويتها، والثنائية القطعية التي لا ترى في الناس إلاّ مؤمن أو كافر وصديق أو عدو ومع الخير أو الشر، والرؤية الإقصائية التي ترفض الآخر المختلف وقد تقتله، والتعصب المذهبي مع المذهب أو ضده، والتطرف الحزبي الذي يمنعنا من رؤية الخطأ عندنا رؤية الصواب عند غيرنا، والتصلب الفكري الذي يقودنا إلى الحرفية والجمود في قراءة النصوص، والانغلاق العقلي الذي يمنعنا من الانفتاح والمرونة على الأفكار الأخرى...
وهذا النمط من التفكير الداعشي ناتج عن قراءة جامدة لمدرسة فقهية وعقيدية وفكرية للإسلام ترى أن رؤيتها واجتهادها في فهم النصوص الدينية هو الإسلام نفسه وليس اجتهاداً داخل الإسلام، وتعتبر رؤية شيوخها للدين هو الدين نفسه وليس فكراً دينياً ناتجاً عن فهم العقل البشري للنص الديني، وهو نوع من الفهم الحرفي للنصوص بمعزل عن المقاصد الكلية للشريعة والإدراك العللي للأحكام الشرعية في إطار تغير الزمان والمكان.
ولا شك أنه ناتج عن قراءة خاطئة لحديث (الفرقة الناجية) في اقتباس مغلوط لعقيدة اليهود في (شعب الله المختار) التي تجعلهم يقدسون ذاتهم الفردية والجمعية ويحتقرون الآخرين أفراداً وجماعات، فيرون في أنفسهم الشعب الوحيد أو الجماعة الوحيدة التي تستحق الحياة في الدنيا والخلود بالجنة في الآخرة.
ونمط التفكير الداعشي ناتج عن فكر سياسي مشوّه قائم على فهم مغلوط لنظام الحكم الإسلامي يعتمد على شكل دولة (الخلافة) مع تجاهل مضمونها المستند إلى العدل والشورى والبيعة والعقد الاجتماعي وحق نقد الحاكم وتصويب مساره وحتى عزله إن أخل بشروط العقد والبيعة. وناتجة عن فلسفة تاريخية تؤمن بفكرة (نهاية التاريخ) حيث تتوّقف حركة التاريخ عند إقامة دولتهم ونظامهم كأفضل ما أنتجه العقل البشري المؤيد بإرادة الله أو أرقى قوانين المادة أسوة بالصهيونية أو الشيوعية أو النازية.
وفي الختام لإخراج داعش- كمنهج تفكير وثقافة- من عقولنا- وليس فقط من واقعنا- لا بد من بذل جهد كبير في مختلف المجالات منها إخراجها من تراثنا الثقافي خاصة الديني والسياسي، وإخراجها من مناهجنا التعليمية والتربوية خاصة في المدارس والمساجد، وإخراجها من عقولنا وقلوبنا خاصة من منهج التفكير وطريقة التصور... وإخراج المجتمع من رواسب الثقافة الداعشية لينتقل من القسوة إلى الرحمة ومن الغلظة إلى الرفق ومن الشدة إلى اللين ومن التعصب إلى التسامح ومن التطرف إلى الوسطية ومن الغلو إلى الاعتدال ومن الاقصاء المتبادل إلى الحوار المتبادل ومن الصراع العنيف إلى التعايش السلمي.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية