يعتبر التعذيب جريمة خطيرة تمس بشخصية الضحية وتجسد إنكاراً للكرامة الكامنة في الإنسان، وهو بموجب القانون الدولي جريمة توجب العقوبة، وانتهاك بشع تحظره التشريعات، ولا يمكن قبول التعذيب أو تبريره في أي ظرف، ولا تسقط جريمة التعذيب بالتقادم، ويستوجب جلب مقترفيه للمساءلة والمحاسبة، وبالتوازي يجب تعويض وتأهيل ضحاياه ومساندتهم.

وانحيازا لحقوق ضحايا التعذيب، تقام في نواحي مختلفة من العالم فعاليات الإسناد بمناسبة اليوم العالمي لمساندة ضحايا التعذيب بهدف القضاء التام على التعذيب، وتحقيقاً لفعالية أثر تطبيق وإعمال اتفاقية مناهضة التعذيب، وتعزيز سبل الرقابة على مدى احترام نصوص هذه الاتفاقية، وتعتبر عملية إعداد وتقديم التقارير للأجسام المعنية احد أهم  آليات الرقابة والحماية.

وفي هذا السياق، يعتبر التقرير السنوي الذي تصدره الهيئة المستقلة لحقوق الانسان احد أدوات الرصد والتوثيق للانتهاكات المتعلقة بالتعذيب وانتهاك الحق بالسلامة الجسدية، وأداة فاعلة للرقابة حول مدى امتثال دولة فلسطين لالتزاماتها لحظر التعذيب والمساس بالسلامة الجسدية، التي أوجبها القانون الدولي لحقوق الانسان، وكذلك القوانين الوطنية.

لقد تضمن التقرير السنوي الثاني والعشرون حقائق جديرة بالتأمل حول جريمة التعذيب، والشكاوى ذات الصلة بها، والردود حولها، وقراءة في التشريعات والسياسات ، وأنماط الشكاوى والجهات المشتكى عليها، وتدخلات الهيئة بصفتها المؤسسة الوطنية لحقوق الانسان، للتصدي لحماية الانسان من التعذيب، وجملة من التوصيات واجبة الإعمال بهدف مناهضة التعذيب وانتهاكات الحق في السلامة الجسدية، حيث رصد تقرير الهيئة المتغيرات المتعلقة بالإطار القانوني الناظم للحق، والانتهاكات الواقعة عليه، إضافة إلى رصد المتغيرات المتعلقة بالمساءلة والمحاسبة، حيث لم توقع فلسطين على البروتوكول الاختياري لاتفاقية مناهضة التعذيب لعام 2002، فيما أبقت دولة فلسطين على التزاماتها الدولية الناجمة عن انضمامها إلى العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، وإلى اتفاقية مناهضة التعذيب. أما على صعيد  الإطار القانوني الوطني، فقد أشار تقرير الهيئة إلى القرار بقانون الذي أصدره الرئيس بشأن حماية الأحداث، الذي يحظر صراحةً إخضاع الحدث للتعذيب الجسدي أو المعنوي أو العقوبة أو المعاملة القاسية أو المهينة أو الحاطّة بالكرامة الإنسانية، ما اعتبرته الهيئة خطوة جيدة على صعيد مواءمة التشريعات الوطنية مع المعايير الدولية. بيد أن التقرير أشار إلى جوانب القصور في مظلة التشريعات الوطنية والمتمثلة في نصوص القانون الأساسي المعدّل وتعديلاته، وقوانين العقوبات وتعديلاتها، وقانون الإجراءات الجزائية وتعديلاته، وقانون أصول المحاكمات الجزائية الثوري وتعديلاته، وقانون الإصلاح والتأهيل وتعديلاته، إضافة إلى قانون الأحداث الجديد، والتي جميعها لم تدرج تعريفاً واضحاً للتعذيب في متونها، ولم تجرَّم أشكال التعذيب كافة، وخصوصاً تجريم المعاملة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة، حيث ما زالت هذه التشريعات تعتبر التعذيب جريمة جنحوية وليست جنائية، وكذلك افتقاد متون تلك التشريعات لنصوص صريحة تلزم بالتعويض العادل لضحايا التعذيب، في ظل ضعف الرقابة القضائية من خلال إمكانية استصدار قرارات من القاضي بتمديد توقيف المتهم دون حضوره للمحكمة ما يشكل خرقاً لضمانات المحاكمة العادلة، والذي بدوره قد يؤسس للاعتقاد بان مساساً بالحق في الحق في السلامة الجسدية أو التعذيب ممكن أن يتم اقترافه!

ورصد تقرير الهيئة انتهاكات الحق في السلامة الجسدية وذلك من خلال بيان عدد الانتهاكات الواردة في شكاوى المواطنين للهيئة حول انتهاك حقهم في السلامة الجسدية، وتوزيعها الجغرافي، وتصنيف هذه الانتهاكات حسب نمطها، وفئات الضحايا، والجهات التي أوقعتها، حيث تلقت الهيئة مئات الشكاوى المتعلقة بانتهاك الحق في السلامة الجسدية، تضمنت هذه الشكاوى (865) ادعاء بانتهاك للحق في السلامة الجسدية في جناحي الوطن، وكذلك أنماط الانتهاكات التي تنوعت ما بين الاعتداء الجسدي أو المعنوي إضافة إلى المعاملة القاسية واللاإنسانية والحاطّة بالكرامة، من خلال الصفع واستخدام الخراطيم، والفلقة، والشبح والاهانة اللفظية.

وتضمن التقرير جريمة التعذيب وانتهاك الحق في السلامة الجسدية من حيث فئات الضحايا حيث مثلت فئة البالغين من الرجال أكثر الفئات التي تعرضت لانتهاكات الحق في السلامة الجسدية بواقع 78.4% من عدد الشكاوى التي تلقتها الهيئة، بالإضافة الى انتهاكات طالت اطفالاً  14.6% ونساءً 7.1%. ولم يغفل التقرير التوضيح بأن هذه الأرقام تشير إلى خطورة وضع الحق في السلامة الجسدية لدى الأطفال في فلسطين والذين يجب أن يحظوا بمعاملة فضلى من قبل المكلفين إنفاذ القانون بموجب اتفاقية حقوق الطفل. كما أن انتهاك الحق في السلامة الجسدية ضد فئة النساء يمثل مؤشراً على عدم احترام اتفاقية الأمم المتحدة للقضاء على أشكال التمييز كافة ضد المرأة، التي انضمت إليها دولة فلسطين.

ومن حيث جهات الانتهاك حسب الشكاوى التي تلقتها الهيئة في تقرير الثاني والعشرون للعام 2016، فقد مثل جهاز الشرطة أكثر الجهات المشتكى عليها، حيث بلغت نسبة الشكاوى ضد جهاز الشرطة في قطاع غزة 48.8% وفي الضفة الغربية 24.6% وجهاز الامن الداخلي 4.5%  وجهاز الامن الوقائي 8.7% وجهاز المخابرات العامة 5.2%  وخلص التقرير إلى أن ارتفاع عدد انتهاكات الحق في السلامة الجسدية المنسوبة إلى جهاز الشرطة في الضفة الغربية وقطاع غزه (خصوصاً جهازي المباحث الجنائية، ومكافحة المخدرات) يأتي على خلاف المنطق، باعتبار جهاز الشرطة، هو أحد الأجهزة المدنية وليس العسكرية التي يفترض بها أن تكون صديقة للجمهور، حيث إن مهمتها الأساسية هي حماية حقوق الإنسان وحرياته العامة، وحماية المجتمع من الجريمة وآثارها، وان  مؤشرات هذه الانتهاكات تثير التساؤلات حول آليات المساءلة داخل جهاز الشرطة، بما يفرض أولويات طرح الحلول التي من شأنها القضاء على ظاهرة التعذيب والمعاملة القاسية داخل هذا الجهاز، وأهمية تطوير القدرات الفنية، وأدوات كشف الجريمة في جهاز الشرطة، كإحدى العوامل الهامة للحد من ظاهرة التعذيب داخل هذا الجهاز إلى جانب تطوير آليات المساءلة فيه، حيث أن غيابها أو ضعفها، يشكل أحد الأسباب الرئيسة في لجوء أفراد جهاز الشرطة إلى التعذيب لانتزاع الاعتراف.

وفي مجال رصد السياسات والتدابير الحكومية فقد تبين للهيئة في تقريرها السنوي، بأن الجهات المختصة لم تضع أي سياسات، ولم تتخذ أي تدابير أو إجراءات جديدة لحماية الحق في السلامة الجسدية، باستثناء طرح مجلس الوزراء مسوّدة لمشروع قرار بقانون الشرطة والذي بدوره لم يتضمن نصاً يحظر التعذيب وغيره من ضروب المعاملة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة، وطرح مسودة قرار بقانون حول نقل الأعضاء البشرية الذي انسجم على حد كبير مع مبادئ حقوق الإنسان.

وعلى صعيد المساءلة والمحاسبة فقد رصد تقرير الهيئة الإجراءات التي اتخذتها السلطات المختصة في دولة فلسطين، لمساءلة ومحاسبة المسئولين عن انتهاكات الحق في السلامة الجسدية سواءً قامت بها من تلقاء نفسها أو بناءً على شكوى الضحية أو بناءً على مراسلات الهيئة في هذا الخصوص، وخلص التقرير إلى ان تدابير المساءلة والمحاسبة ليست بالمستوى المطلوب، ولا تلبي المتطلبات الواردة في اتفاقية مناهضة التعذيب.

وتضمن تقرير الهيئة جملة من التوصيات الهامة واجبة الإعمال والتطبيق منها ضرورة قيام  رئيس دولة فلسطين بالتوقيع على البروتوكول الاختياري لاتفاقية مناهضة التعذيب، وضرورة إنجاز دولة فلسطين للتقرير المتعلق بمدى امتثالها لأحكام اتفاقية مناهضة التعذيب وذلك بعد إجراء مشاورات واسعة النطاق على الصعيد الوطني تتعلق بإعداد هذا التقرير، وضرورة تعديل قوانين العقوبات سارية المفعول من خلال تضمينها نصوصاً صريحة تتعلق تعريف التعذيب، وتجريم المعاملة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة، وعدم قابلية جرائم التعذيب للسقوط بالتقادم، واعتبارها جريمة جنائية وليست جنحوية، واستحداث نصوص قانونية صريحة تلزم بالتعويض العادل لضحايا التعذيب وتستحدث وسائل لإنصافهم، وتعزيز الرقابة القضائية على إجراءات التوقيف والسلامة الجسدية للمتهمين، وبما يمنح المحكمة صلاحية التصدي من تلقاء نفسها لحالات التعذيب، وضرورة قيام النيابة العامة المدنية والعسكرية، بإحالة من يثبت تورطهم في تعذيب المتهمين والموقوفين إلى التحقيق الجنائي دون إبطاء، وضرورة قيام وزارة الداخلية بتفعيل المساءلة والمحاسبة الإدارية للمتهمين بارتكاب التعذيب وسوء المعاملة، وإيقاع الجزاءات  والعقوبات القانونية بحق من يثبت ارتكابه للتعذيب.

وإدراكاً لأولويات التصدي لجريمة التعذيب، ومواجهة الانتهاكات المتعلقة بالحق في السلامة الجسدية، وضرورات مساندة ضحايا التعذيب فقد تم بتاريخ 14/6/2017 إطلاق حملة مساندة ضحايا التعذيب في ذات الوقت الذي تم فيه تنظم المؤتمر الخاص بإصدار تقرير الهيئة السنوي الثاني والعشرون حول وضع حقوق الإنسان في فلسطين، حيت يتم تنفيذ أنشطة هذه الحملة على أسس من الشراكة والتعاون بين الهيئة المستقلة لحقوق الإنسان ومكتب المفوض السامي لحقوق الإنسان، وبرنامج غزة للصحة النفسية، ومركز علاج وتأهيل ضحايا التعذيب، وتتضمن الحملة سلسلة من الأنشطة والفعاليات التي تمتد خلال العام 2017 للحث على " الوقوف جميعاً لنصرة ضحايا التعذيب".

إن التعذيب من أبشع وأسوأ الخبرات والتجارب التي قد يتعرض لها الإنسان، ومن أكثرها إيلاماً، ويشكل انتهاكاً عنيفاً للتكامل الجسدي والعقلي، وأن تداعياته النفسية والجسدية والاجتماعية بالغة الإيذاء والخطورة ما يوجب التصدي لها بكل قوة، وجلب مقترفي جرائم التعذيب للعدالة، وجلب العدالة لضحاياه.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد