205-TRIAL- إلى ما قبل يوم انعقاد مؤتمر القاهرة لإعمار غزة كانت الأجواء مليئة بالشكوك حول إمكانية نجاح المؤتمر وخاصة في تجنيد الأموال المطلوبة لإعادة بناء قطاع غزة الذي دمر العدوان الإسرائيلي جزءاً كبيراً منه.
وكانت تقديرات المسؤولين الفلسطينيين أن الأموال التي سنحصل عليها ستكون أقل من المبالغ اللازمة للإعمار والتي قدرها الرئيس أبو مازن بحوالي أربعة مليارات من الدولارات، لأسباب عديدة منها انشغال العالم بهموم أخرى كالحرب على الإرهاب، ووصول المجتمع الدولي إلى حالة إحباط من تكرار الحروب مع غزة وعمليات الهدم المتلاحقة والموقف من سلاح الفصائل ومن العنف عموماً. ولكن كانت النتيجة مفاجئة من حيث أن المبالغ التي تم التبرع بها فاقت أكثر التقديرات تفاؤلاً، وتجاوزت ما هو مخصص لإعادة الإعمار وشملت مشاريع تنموية. فلماذا هذا النجاح؟
القضية الجوهرية في المؤتمر ليست الإعمار في الواقع بل هي قضية سياسية بامتياز، وهذه تشمل أولاً المسألة الفلسطينية التي عادت لتحتل مكانتها على الساحة الدولية بوجود العديد من الشواهد على الرغم من وجود مشكلات دولية كبرى كان يمكن أن تطغى على هذه المسألة.
ولعل موقف السويد وفرنسا من موضوع الاعتراف بدولة فلسطينية في حدود عام 1967، وموقف روسيا الذي يؤيد قراراً دولياً يحدد مدة زمنية لقيام دولة فلسطين في الأراضي المحتلة في حرب حزيران 1967، وأخيراً موقف مجلس العموم البريطاني الذي صوت بأغلبية ساحقة (274 عضواً مقابل 12 عضواً ) لصالح قرار الاعتراف بدولة فلسطين حتى لو كان هذا التصويت رمزياً ولا يلزم الحكومة البريطانية. ولا شك أن العدوان الإسرائيلي الأخير على غزة والدمار الهائل الذي أحدثه الاستخدام المفرط للقوة وقتل وإصابة عدد كبير من الفلسطينيين قد ساهم بشكل كبير في إثارة القضية الفلسطينية التي أظهرت العالم عارياً في مواجهة المعايير المزدوجة في التعامل مع مسألة حقوق الإنسان. 
كما أن لانعقاد المؤتمر في مصر أهمية بالغة نظراً لموقعها المهم إقليمياً ودولياً وبالذات بعد التطورات التي شهدتها في المرحلة الأخيرة وخاصة لجهة محاربة الإرهاب وإسقاط حكم المتطرفين، وأيضاً لدورها الكبير في الوصول إلى وقف إطلاق النار بين الفصائل في غزة وبين إسرائيل ودورها اللاحق في عملية إعادة الإعمار و فتح المعابر والترتيبات في غزة. ومصر هي الطرف الإقليمي الأهم في كل هذه العملية.
ويبدو أن العديد من الوفود حضرت بهذا الحجم تقديراً للدور والمكانة المصريين، حيث شاركت اكثر من 50 دولة 30 منها بمستوى وزراء الخارجية من بينهم وزير الخارجية الأميركي جون كيري بالإضافة إلى المنظمات الدولية والإقليمية المختلفة، ما أضفى المزيد من الجدية على المؤتمر.
النجاح السياسي الباهر للمؤتمر قد لا ينعكس اقتصادياً على الفلسطينيين، فالتبرعات وإن كانت سخية لم تكن واضحة بسقف زمني محدد وآليات للدفع، وكل الموضوع متروكا لتقديرات المانحين الذين بدون شك سيخضعون الوضع في غزة لاختبار دائم، في إطار مطلوب من الغزيين التمسك بوقف إطلاق نار دائم لا يحتمل العبث أو التراجع تحت أي ظرف، وأي خلل في هذا الجانب سيوقف عملية إعادة الإعمار وتحويل الأموال من المانحين. فالدول المتبرعة لا يمكنها التمويل إلى مالا نهاية وتريد ثباتاً في الوضع الراهن حتى لا تضيع الأموال هباءً. والمسألة الثانية المطلوبة هي سيطرة السلطة بحكومتها الشرعية على الوضع في غزة ابتداءً من المعابر وحتى أصغر التفاصيل بما فيها عملية إعادة الإعمار نفسها. وحتى لو تم تجاوز قضية سلاح الفصائل التي لم تعد مطروحة كشرط للبدء بإعادة الإعمار ورفع الحصار كما كانت تطالب إسرائيل بذلك، فهذا لا يعني التقليل من أهمية السيطرة الأمنية للسلطة على المرافق الحيوية ومختلف مجالات حياة المواطنين، بمعنى أن الانقسام ووجود سلطتين لا بد أن ينتهي بلا رجعة وبشكل يثبت للعالم أن الفلسطينيين موحدون ولديهم عنوان سلطوي واحد هو حكومة التوافق بالإضافة للرئيس أبو مازن.
هذا الجانب المتعلق بشروط إعادة الإعمار ربما يكون الأصعب بالنظر إلى تراكمات أكثر من سبع سنوات على الانقسام ولكنه مطلوب بإلحاح ليس فقط من قبل المانحين والمجتمع الدولي، بل كذلك من الشعب الفلسطيني الذي مل الانقسام ودفع ثمناً باهظاً نتيجة لوجوده، وهذا يتطلب أولاً وجود نية ورغبة وإرادة لدى كل المعنيين وفي مقدمتهم حركة " حماس " التي تسيطر على قطاع غزة والتي بيدها انجاح أو إفشال هذه العملية. وثانياً وضع استراتيجية فلسطينية موحدة في الموضوع السياسي للتعامل مع التحديات الراهنة والمستقبلية، فلا معنى لإعادة الإعمار وحتى الوحدة الوطنية إذا لم تستند إلى رؤية سياسية موحدة محددة بأهداف تمثل الحد الأدنى للإجماع الوطني والتي سيكون في جوهرها إقامة الدولة الفلسطينية في الأراضي المحتلة منذ عام 1967، والتعامل الذكي والمحسوب مع المتغيرات الدولية في إدارة العملية السياسية.
ومع كل ما تقدم يجب ألا يغيب عن بالنا للحظة تأثير العامل الإسرائيلي في كل ما يحصل في قضيتنا، فنحن عندما نتحدث عن الوحدة الوطنية وضرورة تمكين حكومة التوافق الوطني نجد أن إسرائيل تبعث برسائل إلى "حماس" تظهر فيها أنها مستعدة للتعاون معها وتسهيل وتخفيف الحصار المفروض على قطاع غزة مقابل التزام تام بوقف إطلاق النار، وكأنها تقول: لماذا تذهبون إلى السلطة والوحدة ونحن يمكننا مساعدتكم على تجاوز أزمتكم الحالية، وهذا بلا شك سلوك تخريبي يتناقض بطبيعة الحال مع المطالب الإسرائيلية العلنية، وهذا تحدٍ آخر للفلسطينيين ويضع "حماس" مجدداً على المحك بين أن تكمل مشوار الوحدة وتنتصر للشعب وبين أن تقرر اختيار مصالح آنية ليست مضمونة العواقب أو مأمونة الجانب. 174

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد