"كلنا ثقة فيك يا شيخنا الجليل" كلمات قالها الرئيس ياسر عرفات في أذن الشيخ أحمد ياسين وهو على سرير مشفى "المدينة الطبية" في العاصمة الأردنية عمَّان بُعيد الإفراج عنه، في صفقة التبادل الخاصة بمحاولة اغتيال السيد خالد مشعل، كانت هذه الجملة ردًا على تطمينات الشيخ ياسين لعرفات عندما همس في أذنه: "لن أتحدث إلا بوجودك". كان الإثنان يفهما على بعضهما البعض بمجرد النظر، كان المقصد هنا أن العديد من الأنظمة حاولت استمالت الشيخ ياسين و فتح حوار معه، حسب ما نمى إلى علم الرئيس عرفات - من أجل تقويض الحالة الفلسطينية برمتها، وبعد وصول الشيخ إلى غزة كان تصريحه الأول فيها: أنا مواطن فلسطيني، من شعب يرأسه ياسر عرفات". هذه الجملة كانت كافية لأن يبدأ الرئيس في يوم كل عيد بزيارة الشيخ ياسين في منزله، ومن ثم يذهب إلى أسر الشهداء والجرحى .. هكذا كُنا، فهل نعود إلى الأصول مرّة أخرى؟!
ذلك عهد كانت فيه النوايا صادقة، والأعمال خالصة للقضيّة، برغم تصارع العقول والمصالح، لكنها كانت من أجل الصالح العام، والآن، ونحن في أمس الحاجة للتوافق الوطني، وقيم التسامح - ونحن هنا لا نتحدث عن معجزات أو أشياء لا أصل لها، بل عن قيم راسخة تُعد من أهم ما يميز المجتمع الفلسطيني، خاصة في ظل حالة التفتت التي أصابت الأقطار العربية التي كانت السند الدائم للموقف الفلسطيني في مواجهة التعنت الإسرائيلي، والحضن الذي يعمل على تطبيب أي خلاف قد يقع بين الأشقاء.
فالمراقب للحالة الفلسطينية الداخلية، يشعر بالأسى والحزن على ما لحق بها من تمزق وصل إلى درجة الاقتتال وإراقة الدم .. والسؤال هو إلى متى؟! فالأرض تُصادر دون رادع، والأسرى يضربون عن الطعام ولا خلاص في الأفق، والعالم من حولنا يضع الخطط ويعقد الاتفاقيات ونحن نتصارع على سلطة منزوعة القرار. حتى القلوب تنافرت، والعقول تحارب بعضها ولا منتصر، فالجميع في حالة خسران مستمرة.
مزيدًا من التيه والفقدان للبوصلة الوطنية حتى أضحى السياسي الفلسطيني بلا برنامجًا واضحًا للتحرير أو المفاوضات، ومزيدًا من ضياع الأمل لدى فئة كبيرة من الشباب حتى وصل الحال إلى عملية تفريغ قاسية للطاقات الفلسطينية الواعدة في مواضيع متطرفة ومضرة.
إن الانقسام الفلسطيني قد أثر بشكل كبير على جميع جوانب حياة الفلسطيني في كل أماكن تواجده وخاصة في قطاع غزة، فقد أدى إلى تدهور غير مسبوق في فسيفساء النسيج الاجتماعي، الذي تأثر سلبًا بالوضع الاقتصادي السيء مما أفرز العديد من الجرائم الغريبة عن المجتمع الفلسطيني. ومن ناحية أخرى، لقد أظهرت الإحصائيات الأخيرة التابعة للأمم المتحدة مدى تدني مستوى الخدمات المقدمة للمواطن، سواء على صعيد القطاع الصحي أو البيئي أو الغذائي وعلى المناخ الأكاديمي في الجامعات خاصة ما حصل من سجال حول إدارة "جامعة الأقصى" حتى كاد أن يتسبب في إغلاقها وضياع مستقبل أكثر من 25 ألف طالب وطالبة.
وعلى جانب آخر، لقد أثر الانقسام على مبدأ سيادة القانون في الضفة الغربية وقطاع غزة وتعطل عمل المجلس التشريعي مما أعاق سن العديد من التشريعات التي تصب في مصلحة المواطن، الأمر الذي انعكس بدوره على واقع الحقوق والحريات العامة، ناهيك عن تأثير الحصار والانقسام على انخفاض الإنتاجية في كافة القطاعات التجارية مما أدى إلى شل الحركة الاقتصادية في قطاع غزة، الذي تجلّى في ضعف حركة التبادل التجاري بين شقي الوطن.
لقد آن الأوان لوضع الديناميكيات السياسية الفلسطينية على مسار جديد، خاصة بعد صدور الوثيقة الجديدة لحركة حماس ، والتي تلتقي إلى حد التّماهي مع البرنامج المرحلي لمنظمة التحرير الفلسطينية مما يساعد في تقوية موقف الرئيس محمود عباس ، وموقف حركة حماس في آنٍ معًا، كل ذلك يدفعنا إلى ضرورة توحيد الخطاب الفلسطيني الذي نوجهه للعالم الخارجي، من أجل تصدير صورة موحدة تساعدنا في الصمود بوجه المتغيرات الإقليمية الجارية، وتجعلنا أكثر قوة في مواجهة الحجة الإسرائيلية التي تتخذ من إشكالية الانقسام في الخطاب الفلسطيني ذريعة للمماطلة والتسويف، وفي النهاية ليس أمامنا إلا وحدة الكلمة ووحدة الصف والتمسك بالوحدة الوطنية على مبدأ الشراكة؛ كي لا يتحقق قول الشاعر المصري أمل دنقل:" أترى حين أفقأ عينيك ثم أثبت جوهرتين مكانهما.. هل ترى؟! فإن لم نتوقف عن فقأ عيون بعضنا البعض باللمز والتعصب والعناد سنصبح عميانًا، والأعمى لا يقود نفسه بل يقوده غيره، فهل نستفيق؟!
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية