مهما تكن الآراء متباينة حول «رؤية» ترامب لحل الصراع الإسرائيلي الفلسطيني فإن هذا التباين سيظل محدوداً وهامشياً على الأقل من الزوايا التالية:
أولاً: الاستيطان والمستوطنات السابقة على تاريخه هي مستوطنات «شرعية» ولا يشكل وجودها سبباً كافياً لمنع قيام «سلام» ما بين إسرائيل والفلسطينيين.
ثانياً: يصبح بموجب ذلك ضمّ هذه المستوطنات شرعياً ومشروعاً في أي حل قادم، وليس غريباً أن يخرج علينا ترامب بضرورة هذا الضم، وذلك حتى لا تتحول إلى «مشكلة» بدون هذا الضمّ، وحتى يكون هذا الضمّ «المدخل» المناسب للوصول إلى الحل المنشود من طرفه..!!
ثالثاً: بعد هذا الضمّ وبعد أن يتم قضم المساحات «الضرورية» من هذه المستوطنات والتجمعات يتم حصر «الأرض» التي تتبقى للفلسطينيين خارج نطاق القدس الكبرى، وخارج نطاق الجزء الأكبر من الأغوار الفلسطينية، وبعد أن يتم استقطاع كل المساحات «الضرورية» لتواجد الجيش الإسرائيلي من معسكرات ثابتة ومراكز تدريب، وكذلك مناطق المحميات الطبيعية وغيرها بحيث تحصر كل «الأرض» التي ستخصص للفلسطينيين بما يزيد قليلاً على منطقتي «أ» و»ب» وبما لا يزيد على 40% من المساحة الكلية للضفة الفلسطينية.
رابعاً: هنا كذلك يبقى الأمن و»الحدود» في يد الجانب الإسرائيلي وتكون إسرائيل هي صاحبة القرار الأمني والاقتصادي لهذه «الأرض»، ويتم التفاوض بين الجانبين «بدون شروط مسبقة» لتحديد المصير النهائي لهذه الأرض.
خامساً: يحق للجانب الفلسطيني إدارة هذه «المناطق» بحرية سياسية وخدمية بالتنسيق مع الجانب الإسرائيلي وتحت إشرافه طوال فترة المفاوضات.
سادساً: يتم ربط نتائج المفاوضات (أي تقرير مصير هذه المناطق بما عليها من سكان وربما دمج هذه النتائج في إطار حل إقليمي إسرائيلي عربي شامل، تتحدد بموجبها اتجاهات التعامل مع اللاجئين، ومع حرية العبادة في القدس على قاعدة القدس الموحدة عاصمة لإسرائيل، وعلى قاعدة عدم تحمل إسرائيل لأية تبعات لقضية اللاجئين، بل يمكنها المساهمة كغيرها من دول الإقليم في «دفع» تعويضات معينة ليس إلاّ، وذلك، وربما هذا هو الأهم، بعد تسوية أملاك اليهود العرب مع البلدان العربية) هذا هو بالضبط ما يمكن أن تكون عليه رؤية ترامب، وهذا هو بالضبط الحل الإسرائيلي، وهذا هو المشروع الوحيد الذي «توافق» عليه إسرائيل كسقف أعلى للحل.
اللافت للانتباه أن نتنياهو وأعضاء المجلس الأمني المصغر قد تدارسوا هذه الأمور عشية التحضير لزيارة نتنياهو إلى الولايات المتحدة، واللافت للانتباه أكثر هو ما صرّح به أحد أعضاء هذا المجلس من أن كافة أعضاء المجلس يعارضون مبدأ حل الدولتين، وأن لا أحد مع هذا الحل.
أي ان المطلب الرئيسي لإسرائيل من ترامب هو «تجاوز» ما يسمى بحل الدولتين، ورفع الممانعة الأميركية عن الاستيطان، وتأكيد شرعيته من جهة (حتى الآن) وعدم تعارضه مع أية عملية سلام قادمة.
كتبت كل هذا قبل اللقاء، ولن أنتظر حتى يتم الإعلان عن المباحثات وعن نتائجها لأن الكلام الذي سيقال مهما كان موارباً، ومهما كانت الطريقة التي ستستخدم لتلفيقه و»إخراجه»، فإنها لن تكون خارج الاطار الحقيقي الذي تم توضيحه، ولن تكون سوى استعراضات إعلامية ليس إلاّ.
في الواقع فإن نتنياهو يحتاج للعودة من واشنطن وفي جعبته الموقف الذي «بات» عليه الرئيس الأميركي الجديد، وقد يشكل له «طوق نجاة» يبحث عنه، كما أن ترامب يبحث عن الدعم الذي بات يحتاج إليه من كبار طواغيت المال اليهود في الولايات المتحدة، والذين يميلون لمواقف نتنياهو ومواقفه الحقيقية حيال الحل السياسي للصراع في المنطقة، ولهذا فإن «التوافق» الجديد ما بين ترامب ونتنياهو، ربما يكون حاجة ماسة للطرفين من زاوية الأزمة التي يعيشها كل طرف.
نتنياهو يريد طمس معالم أزمته حول قضايا الفساد وحول تعارضاته الداخلية، وترامب كذلك تتراكم فوق رأسه المزيد من المشكلات.
لكن دعونا نرى حقيقة الأزمة التي يعاني منها ترامب أولاً، فوجئ ترامب بردة فعل المجتمع المدني الأميركي على قراراته الهوجاء، وربما يكون قد صدم، أيضاً، بمواقف القضاء على وجه التحديد، أما الطامة الكبرى (حتى الآن) فقد وقعت على رأسه بعد استقالة مسؤول الأمن القومي الأميركي.
يجب أن نعترف هنا للمجتمع المدني الأميركي بقوّته ومثابرته، كما يجب أن نعترف له بهذه القدرة الهائلة على العمل المنظم والمنسق إلى أبعد درجة لم تكن حاضرة ومرئية حتى الآن. كما يجب أن نعترف للديمقراطية الأميركية بهذه الهوامش الواسعة من القدرة على المواجهة حين يتمكن مجموعة من القضاة في ولايات مختلفة إيقاف قرارات الرئيس الأميركي.
الأمر الجوهري هنا هو أن ترامب حتى لو تراجع تحت هذه الضغوط الهائلة على رأسه فإنه فقد القدرة على «التكيف» معها، وهو «مضطر» للمواجهة على كل حال، وهو مهزوم بحكم المؤكّد، وليس أمامه سوى «التوغل» في سياساته العنصرية، وفي التعبير عن آرائه الحقيقية...!؟
ترامب وضع رجله على أول الطريق إلى الهزيمة حتى وإن تمكّن مؤقتاً من المناورة في بعض الهوامش الفرعية.
فعندما يقدم أعلى سلطة أمنية في البلاد استقالته بسبب «تسريبات» للروس عن العقوبات، فهذا يعني أن مراكز قوى كثيرة معروفة ومخفية تلعب في النار، وهذا يعني أن هذه الإدارة هشة ومخترقة، ولديها من الخصوم ومن الأعداء ما يكفي لتحويلها إلى ألعوبة سياسية في يد هذه المراكز للنفوذ والسيطرة والتحكم.
لكل هذه الأسباب فإن إدارة ترامب مرتبكة تماماً، وهي ليست في أحسن حال حتى يستثمر نتنياهو مواقف الرئيس الأميركي المنفعل في البيت الأبيض.
كما أن  كبار اصحاب رؤوس المال اليهود مع حماس هم لمواقف نتنياهو إلاّ أنهم سيكونون أكثر حذراً من نتنياهو لأنهم، ربما يعرفون عن كثب عمق أزمة ترامب وأبعاد سياساته.
لذلك «التمَّ المتعوس على خائب الرجاء» ولا داعي للخوف مع أن الأمر مقلق، ويجب أن يدقّ لدينا ناقوسا أكثر من خطر.
حتى الحزب الجمهوري سيكون حذراً، وترامب ليس كل الحزب وليس سوى جناح منه، ولدينا الكثير من العمل مع المجتمع الأميركي ومع أحزابه ومع كل مكوّناته.
تلازم ترامب مع نتنياهو ليس كله شرّا مطلقا. من يدري؟ ربما أنه تلازم في مصلحتنا...!!
وعلى كل حال فإن تراكم الأوهام ومضاعفتها لا يحولها إلى وقائع ولا يمكن أن تتحول إلى حقائق أبداً.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد