ربما أن الاستيطان قد وصل إلى ما هو أبعد من الانفلات، ودخلت إسرائيل في مرحلة الجنون الاستيطاني.
هل أن مجيء ترامب هو الذي أحدث هذا "الانقلاب" الجديد؟ أم أن هذه المرحلة أصبحت تحصيل حاصل لتطور ومسار العلاقات الداخلية في إسرائيل، أم أن "تحكُّم" المستوطنين بتلابيب الحياة السياسية فيها قد بات مكرّساً، وأن ما تبقى من المؤسسات السياسية الإسرائيلية غير المروّضة بالكامل لم تعد تقوى على "الصمود" أم ماذا؟
هناك من يحاول تفسير مرحلة الفلتان (أو ما بعدها) بأحداث معينة مثل سلسلة الفضائح التي تحيط برئيس حكومة الاحتلال، وهناك من يعتقد أن هذه المرحلة هي تعبير حقيقي عن اشتعال حرب زعامة اليمين المتطرف بإسرائيل، لكن الأمر الجوهري في كل هذا أن المسألة أبعد من ذلك وأعمق من ذلك. كل المظاهر التي تم الحديث عنها وكل المحاولات لتفسير الوقائع الإسرائيلية بها صحيحة وهي بكل تأكيد جزء من العناصر المكونة للحالة الإسرائيلية، لكن جوهر المسألة أمر مختلف.
الحقيقة هي أن الاستيطان تحوّل إلى العنصر المحرك الوحيد للفكر اليميني المتطرف في إسرائيل، وأصبحت المستوطنات هي وجهة السياسة الإسرائيلية، بحيث تحول الاحتلال إلى الراعي والحامي للاستيطان، وتحولت السياسات الاستيطانية إلى أولوية مطلقة، وتحولت الميزانيات والموارد المالية الضخمة إلى آليات متوافق عليها من عموم أطراف المعسكر اليميني، ولهذا فإن إسرائيل تنتقل بالاستيطان من العنصر المحرك إلى صمام أمان سياسي "لصمود" وسيطرة وتحكم اليمين بالمعادلة السياسية في إسرائيل.
والصراع اليوم بين المعسكر اليميني وبين بقية أطراف المعادلة السياسية، وكذلك الصراع بين الأطراف اليمينية الإسرائيلية سيتحول إلى صراع هامشي إذا حاد عن طريق الاستيطان والتغوّل الاستيطاني.
باختصار فإن الاستيطان اليوم هو روح الحياة السياسية في إسرائيل وهو العنصر الديناميكي الأهم فيها، وهو المحور الرئيس للتعارضات والاختلافات وحتى التناقضات فيها.
عندما تصل الأمور إلى هذا الحد، وعندما يتحول الاستيطان ويرتقي إلى مصاف الأولوية السياسية الأولى، وعندما يتحول المستوطنون إلى كتل محركة وليس مجرد حالة اعتراضية أو حتى كتلة مانعة في الحياة السياسية في إسرائيل فإن إسرائيل بهذا الواقع تكون قد انتقلت من دولة الجيش إلى دولة المستوطنين.
وعندما تتحول إسرائيل من دولة الجيش إلى دولة المستوطنين فنحن هنا أمام تحولات نوعية جديدة مختلفة اختلافاً جذرياً عما كان عليه الأمر منذ تأسيس الدولة الإسرائيلية وحتى يومنا هذا.
هذه مسألة تنقل إسرائيل من دولة ديمقراطية لليهود إلى دولة ديمقراطية لجزء منهم فقط، بغض النظر (عن حجم هذا الجزء)، ولهذا فإن التحول الحقيقي هو في انتقال الديمقراطية من منهج لإدارة الصراعات السياسية إلى شكل من اشكال حسم هذا الصراع لصالح فئات معينة على حساب أخرى.
وبهذه المعاني فربما أن إسرائيل تخلي في الواقع الميدان لكي يحتله أناس لا يؤمنون بالديمقراطية إلاّ بقدر ما تؤمّن لهم فرص السيطرة والتحكّم وفرص الانقضاض على كل من يعارضهم.
إن الذي يجري في إسرائيل لا يختلف عما يجري من محاولات سيطرة الأصوليات الدينية، وخصوصاً جناح الفاشية الإسلامية في منطقة الإقليم العربي، وهو لا يختلف إلاّ في الدرجة عن الأصوليات المتطرفة في العالم ولا عن الفكر القومي المتطرف الذي تعبّر عنه الحالة الشعبوية التي بات يتسم بها الحال في بلدان متطورة مثل الولايات المتحدة وبعض البلدان الأوروبية.
نحن أمام اختلالات بنيوية في الواقع الإسرائيلي ستطيح بصورة منهجية منظمة بكل ما كان لدى إسرائيل من "ذخيرة" ديمقراطية بعد أن تم الإطاحة فعلاً بكل "ذخر" ديمقراطي فيها.
صحيح أن هذه العملية وهذا التحول ليس مرئياً تماماً من غالبية الجمهور في إسرائيل، وصحيح، أيضاً، أن اليمين بما يمتلك من سيطرة وتحكم بوسائل الإعلام الإسرائيلية (غالبيتها في الواقع) يستطيع أن يناور طويلا قبل اتضاح وافتضاح أمره وكشفه على حقيقته، إلاّ أن مكمن الخلل الأساسي هنا هو أن كل ما يعتبر خارج نطاق المعسكر اليميني ليس معادياً لا من حيث المبدأ ولا من حيث الاعتبارات العملية، وهو ليس مناوئاً للاستيطان أو "واعياً" بما يكفي الأخطار التي تعكسها الانفلاتات الاستيطانية على الحياة السياسية في إسرائيل وعلى ما تبقى من إرث ديمقراطي فيها.
إنها المرة الأولى في تاريخ إسرائيل (وهو تاريخ قصير على كل حال) التي تتحول الاغلبية اليمينية فيها من أغلبية سياسية إلى أغلبية ثقافية، ويتحول اليمين فيها من يمين تقليدي (مستعد لخوض غمار تداول السلطة ديمقراطياً) إلى يمين متطرف مستعد للانقضاض الكامل على نفس هذه الديمقراطية والإطاحة بها إذا تطلّب الأمر.
ليس الهدف من كل ذلك إغفال عنصر "ترامب" من المعادلة، ولكن الجوهري هنا ـ كما أرى ـ هو أن مجيء ترامب أصبح عاملاً مسرعاً في هذا المسار، وليس العامل المسبب لها، كما يحاول البعض تفسير الحالة الإسرائيلية الراهنة. هناك بطبيعة الحال من دهاة السياسة في إسرائيل من يقدّر بأن ترامب لن يعمّر طويلاً في البيت الأبيض، وهناك في هذا العالم من بات على قناعة أن ترامب ربما لن يتمكن من إكمال ولايته الدستورية، ولهذا فإن ترامب في هذه الحالة بالذات هو فرصة نادرة يجب استثمارها بأسرع وقت وبأسرع وتيرة، وقبل أن يحدث في أميركا وفي غيرها من التطورات التي إما أن تمنع امتداد الانقلاب الاستيطاني وتعمُّقه أو تبطئ وتيرة نموه وتسارعه.
على كل حال فإن مؤسسة الجيش لم تقل كلمتها بعد، وحتى مؤسسات الأمن في إسرائيل لن تقبل وتتقبّل هذا التحول الخطير على مصالحها بهذه السهولة والبساطة، وما أراه أن هذه المؤسسات بالذات ما زالت في حالة "دراسة" لواقع وآفاق ومستقبل هذه التحولات في إسرائيل.
لا يوجد فرصة أمام أقطاب هذا الانقلاب وهذه التحولات أكبر من "صمت" ترامب على الاستيطان الإسرائيلي، ولا يوجد فرصة أكبر أمام "الأقطاب" من حالة التشظّي العربي، ولا يوجد فرصة أمامهم أفضل من حالة الانقسام الفلسطينية، ولهذا تبدو الأمور ميسّرة وممهّدة، ولهذا، أيضاً، فإن حركة الاعتراض المناهضة لهذه التحولات هشة وضعيفة وليست بمستوى الأخطار التي تمثلها لا على المستوى الداخلي الإسرائيلي، ولا على أي مستوى آخر.
لكن مستويات المناهضة متغيرة، وقد تأتي المفاجآت من حيث لا يحتسب هذا اليمين ومن حيث لا يدري أبداً.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد