47-TRIAL- ذات مرة كتب شاعرنا الكبير محمود درويش "على الأحياء أن يرثوا هدوء الريح .. أن يتعلموا فتح النوافذ .. أن يبكوا على مهل لئلا يسمع الأعداء ما فيهم من الخزف المكسر" لكن الدموع التي انحبست طويلا في المقل آن لها الأوان أن تندلق مرة واحدة أمام تراجيديا هي الأطول حزنا في التاريخ الإنساني وسط روايات تمزق القلب ... طفل يجهل الموت أمام جثمان أبيه المسجي يقول، "بابا قوم وعدتني أن تأخذني معك مشوار" وشهيدة تحتضن أطفالها الشهداء، وامرأة لم تتمكن من إخلاء كل أولادها فتركت أصغرهم التوأم للموت ومثلها ما يكفي لإعادة كتابة تاريخ الإجرام الطويل.
قصص ستبقى شاهدة على همجية وفاشية القرن الحادي والعشرين، وكأن لكل قرن فاشييه وضحيته التي يصر التاريخ على أن يمثلا روايته السوداء على خشبة مسرح عبثه الدائم وهذه المرة نحن ضحيته الكبرى بعظمنا ولحمنا وأطفالنا الذين يحكم عليهم بالموت قصفا، ماذا يعني أن يقتل طفل بعمر ثلاثة أشهر وزنه خمسة كيلوجرامات بصاروخ يزن نصف طن .. إنه العقل المختل والمصاب بالسعار الدائم وبحمى القتل الدائم، والتواطؤ الدولي الدائم، والكساح العربي الدائم ونحن علينا أن نعد شهداءنا على مهل كي لا يسمع الأعداء .. لم نعد نحتمل تعبنا من حجم القذائف من هولوكوست مستمر على غزة .
هي غزة التي لم يخطئ فنانوها حين جسدوا طائر العنقاء في ميدانها الرئيسي كأنها في كل مرة تنبعث من الرماد حين تموت لتعود للحياة وتعيدها في معجزة مذهلة وكأن الموت والحياة، هنا صديقان يلهوان مع بعضهما في شوارعها بمرح شديد متشابكي الأيدي .. يا الله كيف التقى هذا الضدان معاً؟، إنها معادلة صعبة عليك أن تكون هنا في غزة لتحل معادلتها وشيفرتها الوراثية ولتقرأ أبجديتها وسفر تكوينها وتسمع أنينها وتعرف ماذا فعله بها عبث الأصدقاء الأخوة الألداء وشراسة الأعداء.
إنه انفجارها المعلن وشكل احتجاجها الذي يليق بتمردها وفائض وطنيتها، فقد أطلق كتابها منذ أشهر نداء التحذير لموت قادم حين اقترب الفرق من جبهتها قالوا إن غزة ستنفجر وستوزع شظاياها على الجميع ولن يسلم أحد، كلهم صموا آذانهم وها هي بلغتها التي تستطيع أن تعبر بها ترغم الجميع على أن يدور حول نفسه باحثاً عن حل، أهل كان يجب أن يموت ألف ويصاب خمسة آلاف حتى يعرف الكل أن هناك كارثة في غزة؟.
كم تعبنا من هواء بحرها الذي تحول إلى لهب تقذفه البوارج ومن سمائها لكثرة ما ألقته من قنابل ومن رملها الملغم بالدبابات كم تعبنا من قلة خبرة حماس وعبث الموت، كم تعبنا من تجاهل فتح وعبثها حد الموت، وكم تعبنا من حياد اليسار الجارح حد الموت أيضا وقسوة مصر، كم تعبنا من تفسخنا وتشتتنا وتضارب البرامج .. من فائض الحرب بدون حساب وفائض السلام بدون حساب ودمنا هو درس الحساب الدائم في معادلة الصراع القائم.
قلنا: لا تتركوا غزة وحيدة .. لا تخنقوا غزة فهي سيدة الخيارات حين تغضب والاستسلام ليس بينها، وفي الأشهر الأخيرة بعد تلكؤ المصالحة كان من الواضح أن غزة تزداد اختناقا، وهذه المتمردة العنيفة كما تاريخها كان يجب ألا يبقى أمامها سوى خيار الصدام، حاولوا أن تأخذوا بيدها، قليلا من الانفراج كان يكفي لتعيش، قليلا من المال ومعبراً كان يجب أن يكون ثمرة المصالحة فهي طيبة وترضى بالقليل ولكنها مجنونة حين تعلن تمردها.
على جثتها الآن ابحثوا عن حلول، عن قبور لشهدائها وأطراف صناعية لمعاقيها وعن حل لتشوه أطفالها وعن لغز كتبه أحد الأصدقاء في حوار بين طفل ووالده حين سأل الطفل: أين يذهب الشهيد يا أبي، فيرد الأب: إلى السماء، ليسأل الطفل: هل من المكان الذي تلقي منه الطائرات علينا القنابل؟ هاتوا كل أطباء النفس وكل الفلاسفة ليعيدوا لأطفالنا براءة الطفولة وسذاجة الحياة وأسئلة الفراشات، كيف أقنع طفلي أن زميله في مقعد الدراسة قتلته البوارج لأنه كان يحاول سرقة لحظة لهو على الشاطئ وسط الحرب؟ كيف أقنعه أن تهمة اللعب في غزة عقوبتها الإعدام قصفاً بالقذاف؟ مات دون أن يعطي زمناً ليتمتع برغبته الأخيرة .. بالتأكيد كان يريد أن يكبر ككل أطفال العالم .. أن يعد الموج أن يرسم على رمل الشواطئ صورة حبيبته .. أن يسافر .. أن يرى المدن والقطارات والشوارع الأنيقة لقد مات أيها السادة .. اندفنت أحلامه كلها في قبر مزدحم لكثرة الشهداء .. سنبكي يا درويش وليسمع أعداؤنا تكسر خزفنا لأن لدينا فائض إنسانية مقابل أعداء الإنسانية وليس ضعفاً بل لنوزع شظايا ما تكسر فينا لنفقأ عيونهم ونلاحق تاريخ الإجرام ولا بد أننا سنطعنه في مقتل فقد اكتشفنا نقطة ضعفه.
غزة لن تنكسر في مواجهة أعتى آلات القتل والدمار، لأن انكسارها يعني موت المشروع كله، وكلما اقترب الصولجان من الأرض تنحني غزة لالتقاطه من جديد لن تسمح بسقوطه، وحين أغلق نتنياهو بوابة حل الدولتين رفعت غزة رأسها لتقول، "نحن لها يا إسرائيل إليك البديل" أرادوا عملية كي للوعي الفلسطيني ها هي غزة تكوي وعيهم وتقول: لا أمن لكم، كل مدنكم مكشوفة أمامنا اختاروا ولا زال لدينا من القوة وفائض الدم ما يكفي لمقارعتكم حتى التحرير.
غزة المدهشة فقيرة لكنها غنية بالدم، صغيرة ولكن كبيرة بما تحمله من مشاريع تغطي مساحة الوطن لتنزع دولة من محتليها، مسالمة وهادئة ولكن لديها أنياباً عندما تدخل معركتها وحين تغرسها في لحم أعدائها، هي جزء أصيل من الوطن لا تنفصل عنه ولا تريد ولكن تريد أن تبقى ككل مدنه مفتوحة على نفسها وعلى العالم الآن، فكروا بذلك وفكروا أكثر كيف تؤمن لها الحماية لتكون هذه آخر حروبها فقد تعبت أن تكون شاخص رماية الأعداء وميدان تجربة ما تنتجه أحدث مصانع من الأسلحة.
غزة لن ترفع رايتها البيضاء لأنها تقاتل دفاعاً عن القيم الإنسانية عندما هرب العالم من الدفاع عن أخلاقه فإن في هزيمتها هزيمة للإنسانية وانتصاراً للمجرم على الضحية، حاول المجرم أن يفعلها حين تواطأت معه محكمة الضمير ولا زالت وحين صمت العرب على قتلها وحين غابت العدالة الدولية وحين تحولت مؤسساتها إلى أدوات صغيرة لكن سيشهد التاريخ أن جثث أطفال غزة ستعيد تصويب بشاعة العالم وستعيد للضمير الإنساني الميت حيويته بعد أن هزته بعنف حد الإفاقة .. لا يا ولدي، الشهيد لا يصعد الى حيث تلقى الطائرات قنابلها بل ان الطائرات هي من اعتدت على السماء موطن الشهيد وموطن الملائكة ..! 61

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد