168-TRIAL- حتى كتابة هذا المقال بات من الواضح أن محاولات التهدئة التي استدعت كل هذا الأسطول الدبلوماسي للعمل كرجال إطفاء للحريق المندلع بلا توقف لم تحقق اختراقا، وبات من الواضح أيضا أن بدايات الهجوم البري أي الورقة التي هددت بها إسرائيل طويلا لثني المقاومة الفلسطينية من خلال الضغط عليها لم يعط لإسرائيل تفوقا اعتادت عليه، بل أن نذر معاركه الصغيرة التي اندلعت على مشارف القطاع كانت في صالح المقاومة بامتياز حيث الخسائر في القوات الإسرائيلية التي تقدمت بينما لا خسائر في صفوف الذين خاضوا الاشتباكات من الجانب الفلسطيني.
إذا، ما تهدد به إسرائيل لم يأت بنتيجة وهذا ما يفسر تزامن ارتفاع القتل لدى المدنيين الفلسطينيين كتعويض وكضغط على الجانب المقاومة، بدايات المعركة البرية وتوازناتها في الأربع وعشرين ساعة الأولى جعلت المقاومة أكثر تمسكا بشروطها للتهدئة، خاصة أنها تقود معركتها هذه المرة كليا من تحت الأرض ودون خسائر تذكر ومع غياب المعلومات لدى الجيش الإسرائيليعما يحدث في غزة من قدرات لا شك أنها شكلت مفاجآت بات من الواضح أن ليس هناك طرف في القتال الدائر مستعد لتقديم تنازلات.
حركة حماس تعتبر أن هذه المعركة فاصلة وأداؤها إلى جانب الجهاد الإسلامي وبعض القوى الأخرى أفضل كثيرا من المعارك السابقة وليس لديها ما تخسره، فإما أن ينتهي الحصار جديا عن غزة وليس كما حصل في التهدئات السابقة وإما أن تستمر المعركة، وهذا الرأي يسنده التوازن الذي يتحقق على الأرض ويلقى دعما حتى من معارضي حركة حماس مثل عباس زكي عضو اللجنة المركزية ل فتح وقاضي القضاة محمود الهباش، وعلى الجانب الآخر فإن إسرائيل التي اعتادت أن تتلقى استسلاما كاملا من أعدائها في حروب سابقة لا زالت تقودها عنجهية القوة حتى على طاولة المفاوضات.
ولكن لتأخير اتفاق التهدئة حتى اللحظة بعدا آخر وهو التنافس على الدور على المستوى الإقليمي والخلاف المتصاعد بين مصر من ناحية وقطر وتركيا من ناحية أخرى، وهما الدولتان اللتان وجدتا في الفراغ الحاصل في الأيام الأولى للمعارك فرصة للدخول على خط التهدئة ليشكلا محورا لديه توافق على النيل من مصر والدور المصري وفرصة لتصفية الحساب مع دولة أطاحت بالرجل القريب منهما لتقيم نظاما معاديا إلى حد ما، وهكذا نشأ توازن آخر في لعبة المحاور واضح أن الدم الفلسطيني في قطاع غزة عليه أيضا أن يدفع ثمنه، ففي الأيام الأولى تجنبت القاهرة التواصل مع حركة حماس وحاولت أن تطلب من إسرائيل ألا ترفع مستوى النار وألا تصعد في عدوانها ضد القطاع، ولكن يبدو أن انقطاع الخطوط بين حماس والقاهرة ورفض الأخيرة للحديث مع الحركة الفلسطينية لم يساعد على إطفاء الحريق في بدايته وتصاعد اللهب في الأيام الأولى، هذا الوقف الذي ينال من الوساطة المصرية لتحاول دول أخرى مثل تركيا وقطر تعبئة الفراغ، وهذا أغضب القاهرة لتعود من جديد محاولة مسك الخيوط في ملف تعتبره ملفا مصريا بامتياز.
عادت القاهرة لتتقدم بمبادرتها التي سارعت حركة حماس والجهاد الإسلامي إلى رفضها، وبالرغم من أن "الجهاد" أعلن موقفه الرافض قبل "حماس" إلا أن المعلومات تشير إلى أن "الجهاد" أكثر ميلا للتهدئة نظرا للعلاقة الوثيقة بين القاهرة وحركة الجهاد، ولأن حركة الجهاد الإسلامي لا ترغب بدور تركي، وفي هذا هي أقرب للموقف الإيراني الذي لا يريد أن يرى تركيا هي من يقطف ثمار جهده في تمويل وتسليح الحركتين اللتين وصلتا إلى هذا المستوى من الأداء الذي يعكس البصمة الإيرانية التي تشبه تماما معركة 2006 في لبنان بتفاصيلها. إيران غاضبة من تركيا منذ تدخلها بقوة في الشأن السوري لإسقاط حليف إيران الأبرز في دمشق ولأنها سمحت للناتو بنشر أجهزة تسمح بمراقبة طهران على أراضيها، لهذا كان الموقف الإيراني من التهدئة أقرب للموقف المصري، حيث الاتصالات بين وزيري خارجية مصر وإيران للتفاهم على وقف إطلاق النار وتفهم إيران أيضا أن أي اتفاق تهدئة يتم إبرامه سيصطدم عند التنفيذ بضرورات الجغرافيا والدور المصري وخصوصا أن أحد أبرز مطالب المقاومة هو رفع الحصار، وبالتالي فإن موقع غزة يفرض ألا يمر الحل إلا عبر القاهرة.
إذن التهدئة في أزمة حقيقية وأطراف الأزمة والحل كلهم يتمسكون بمواقفهم حتى اللحظة، ما ينذر بإطالة أمد المعارك، فإسرائيل من جهة والمقاومة من جهة أخرى، وليس اي من الطرفين مستعد حتى اللحظة أن ينزل عن شروطه، مقاومة يسندها أداء يسجل نقاطا على الأرض يجعلها تعيش نشوة الانتصار والصمود، ودولة تتصرف بعنجهية القوة تضرب المدنيين وليست مستعدة للتراجع بعد ضربها وخصوصا القوات التي حاولت التقدم بريا، وعلى المستوى الإقليمي نحن أمام محورين يتصارعان على الدور، مصر من جهة التي لن يمر اتفاق دونها والمحور القطري التركي الذي دخل بقوة ضد مصر طارحا مبادرة موازية، وكل من هذين المحورين صعد على الشجرة ليس مستعدا للنزول، وفي إطار لعبة المحاور يبدو الدم الفلسطيني رخيصا أمام الدور الذي تطمح الدول أن تلعبه. 
من يكسر هذه المعادلة الجامدة إذن؟ ليس فقط في صراع الإرادة بين الفلسطينيين وإسرائيل بل في صراع الإرادات على مستوى الإقليم، وهل يمكن للسلطة الفلسطينية التي دخلت على خط التهدئة دون أن تمتلك أدوات في القتال الدائر أن تحدث اختراقا فيها؟ هناك شك في ذلك، وهل هذا يعني أن التصعيد مرشح للاستمرار؟ أم أن زيارة أمين عام الأمم المتحدة يمكن أن تنجح في وضع حد للمعارك المتصاعدة والاعتداءات الإسرائيلية على المدنيين والإطفاء وخصوصا مع اختفاء حماس قيادة ومقاتلين يعملون من تحت الأرض، أيضا مشكوك في ذلك خاصة بعد الإعلان عن تأجيل جديد لزيارة جون كيري للقاهرة، حيث بإمكان الولايات المتحدة أن تضع حدا للتنافس الإقليمي ووضع حد لهذا العبث المكلف فلسطينيا، لكن ما هو تأثير الولايات المتحدة والأمم المتحدة على حركة حماس مثلا؟ وهل ستطلب من تركيا وقطر أن ينزلا عن الشجرة أو الضغط على حماس؟ وهل ستقبل حركة حماس التنازل بعد هذا الأداء وهي تشعر أن المعركة يجب أن تحقق ما عجزت عن تحقيقه المعارك السابقة؟
المسألة على درجة من التعقيد يتداخل فيها البعد الوطني بالإقليمي ولا يمكن تجاهل الأزمة الفلسطينية ورغبة حركة حماس بصفقة يدفع فيها الجميع استحقاقات بمن فيهم السلطة الفلسطينية التي تباطأت في تنفيذ اتفاق المصالحة ودفع رواتب لموظفي حكومة الحركة السابقة وغير ذلك. لهذا عندما تتحدث حركة حماس عن أن هذه المعركة فاصلة فهي تعني ما تقول وتعرف أن لا مجال للعودة إلى حالة اليأس التي مرت بها قبل هذه المعركة، وبما أن الكل يبحث عن دور في إطفاء اللهب على الجميع أن يدفع.
لكن بالمقابل إذا ما امتدت الأزمة لماذا لا تسارع القيادة الفلسطينية إلى الدعوة لعمل جماعي بما يشبه الإطار القيادي للمنظمة لنعرف بشكل جماعي ما الذي نريده من غزة، هل نريدها نواة دولة أم نريدها جزءا من الضفة مع استحقاق كل من الخيارين وذلك من خلال تشكيل خلية جماعية لإدارتها من القاهرة تشرف على كل شيء سواء تعزيز الموقف التفاوضي لحماس والجهاد ولطلب المساعدات الإنسانية ومتابعة المصابين والجرحى وللإشراف على الاتصالات الدولية، فالدكتور أبو مرزوق ونائب أمين عام حركة الجهاد زياد النخالة هناك، لماذا لا يستدعى ممثلو كل القوى للمساهمة في إدارة هذه المعركة بدل ترك الحركتين وحدهما؟ ولماذا لا يتم التصدي للضغط بشكل موحد وإجراء التعديلات اللازمة على الورقة المصرية بشكل جماعي بما يضمن رفع الحصار ولجم إسرائيل؟ فشروط المقاومة في هذا هي مطالب للكل الفلسطيني، والذي يدفع الدم هو الكل الفلسطيني، وحتى يكون الإنجاز بحجم التضحيات يجب استدعاء كل عوامل الإسناد الفلسطيني، المعركة تتسع وإسرائيل فرضتها ويجب ألا تنتصر. 
Atallah.akram@hotmail.com 16

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد