مع نهاية العام الجاري تكون حركة فتح قد بلغت عامها الخمسين، عقود قادت خلالها الحركة الوطنية الفلسطينية منذ بيان العاصفة الأول، ونجحت خلالها في أن تكون الحركة الأكثر تعبيراً عن تطلعات الشعب الفلسطيني والأكثر مقدرة على تقديم إجابات لنكبته وتبعاتها.
وهو سبق لم تأخذه فتح بالأقدمية ولا بالبلاغة، بل بقدرتها المذهلة على تقديم أطروحات ثورية وتحررية بسيطة وبلا تعقيدات تستجيب لكُنْه الصراع الذي هُجّر خلاله الفلسطيني من موطنه.
بذلك نجحت فتح في أن تكون حركة الفلسطينيين المعبرة عنهم والمتحدثة باسمهم.
حتى حين خسرت الانتخابات التشريعية الثانية العام 2006 وبعد ذلك بعام خسرت موقعها في السلطة ب غزة بالقوة والعنف، إلا أنها ظلت حركة الجماهير التي خرجت في كانون الثاني (يناير) 2013 على بكرة أبيها في ذكرى انطلاقة الحركة الثامنة والأربعين في ساحة السرايا بغزة.
لكن هذا العام الخمسين لفتح يحمل في طياته جملة من التحديات الكبرى أمام الحركة التي ما زالت طريق الأهداف والتطلعات مليئة بغير المنجز وحافلة بالتهديدات والمخاوف.
إن نصف قرن من عمر فتح يشكل دافعاً قوياً للحركة لأن تعيد النظر في المستقبل حتى تكون أكثر مقدرة على تحقيقه، وحتى يكون المستقبل أجمل وتكون الغايات سهلة المنال.
إن التاريخ على أهميته لا يساعد وحده في ضمان بطاقة صعود على طائرة المستقبل، وإن الإنجازات والنجاحات بقدر ما تشكل حافزاً للمزيد منها، إلا أنها تتطلب جهداً أكبر من أجل الحفاظ عليها وتحقيق الذي لم ينجز منها.
فتح مطالبة أكثر من أي وقت مضى بأن تعيد ترتيب صفوفها وأولوياتها وتركيز جهودها نحو إعادة بناء نفسها وتصويب ما أعوج وما تشوه في بنائها، فالتنظيم القوي المتماسك وحده القادر على قيادة الجماهير وعلى ترجمة تطلعات هذه الجماهير في برامج وخطط.
وعليه فإن بناء التنظيم وتماسكه وتمتينه وضبطه هو مهمة فتح الكبرى، لأن فتح بلا فتح لا يمكن لها أن تقود الشعب وتكون حقاً حركة الجماهير كما يطيب لفتح أن تطلق على نفسها.
والتنظيم الذي عانى خلال عشرين عاماً ونيف من عمر السلطة الوطنية ومن خروجه من العمل السري إلى الممارسة العملية أصابه ما أصابه من اعتلال وقصور وترهل ومزاوجة بين السلطة والعمل الحركي، ووقع أيضاً رغم ذلك تحت وطأة تحديات جسام استجاب لبعضها وظل قاصراً عن تقديم إجابات عن البعض الآخر، وهو قصور دفعت فتح فاتورته الباهظة في الانتخابات البلدية عامي 2004 و 2005 وبعد ذلك في الانتخابات التشريعية العام 2006 والخسارة الفادحة في غزة في حزيران 2007.
لقد تميزت فتح دون كل التنظيمات الفلسطينية بأن رديف اسمها يأتي اسم إطارها "التنظيم"، وهي دلالة على أهمية البناء التنظيمي ودوره الجماهيري في تأدية رسالة الحركة، وإن الالتفات للتنظيم من خلاياه الأولى مروراً بالأجنحة والشعب والمناطق والأقاليم والأطر والهيئات والتنظيمات المختلفة مهمة فتح الأساس وهي تجتاز عتبة النصف قرن.
بالطبع هذا مقرون ببناء الحركة بشكل أساسي لاسيما مع اقتراب استحقاق عقد المؤتمر العام السابع للحركة بعد خمس سنوات من عقد المؤتمر السادس في مدينة بيت لحم العام 2009.
إن عقد المؤتمر في موعده هو تأكيد على رغبة فتح في استمرار عملية التجديد والبناء والتي تشكل ضمن أشياء أخرى مراجعة شاملة لمسيرة الحركة ولخططها بجانب تقديم حلول خلاقة وابداعية على صعيد النظام الداخلي حتى يستجيب للتحولات الكبرى التي طرأت خاصة في حجم الهيئات التنظيمية وتمثيليتها وجغرافيتها، وعلى صعيد علاقة فتح بالسلطة أو بالدولة ووضع ضوابط ومعايير لذلك تحافظ على فتح كحركة لها مهام أخرى غير بناء السلطة والحفاظ عليها بوصفها منجزاً وطنياً كبيراً، وعلى صعيد البرامج الخدماتية والجماهيرية التي تحاول من خلالها الحركة إعادة ترميم علاقتها بالجماهير، وعلى صعيد علاقة الحركة بجماهير شعبنا في الشتات حتى تستقيم مقولة إن الحركة حركة الجميع.
وإلى جانب كل ذلك ثمة حاجة لضخ دماء جديدة وأفكار جديدة ورؤى جديدة تستطيع العبور بفتح إلى المرحلة الجديدة بكل تحدياتها وصعوباتها واستغلال كل فرصها بطريقة سليمة.
لقد اختتمت فتح عشرين عاماً من بناء السلطة وهي لحظة تاريخية بحاجة لإعادة تفكير ومراجعة.
ففي تموز القادم يكون قد مر عشرون عاماً على عودة الرئيس ياسر عرفات إلى غزة وبداية مرحلة جديدة في قيادة الحركة الوطنية.
لقد سخرت فتح نفسها لبناء السلطة وكانت في بداية المشوار وحيدة حتى في الأجسام التمثيلية لهذه السلطة التي حاول خصوم فتح ومعارضوها نزع الشرعية عنها من خلال مقاطعتها ليعودوا بعد ذلك بأعوام لمنافسة فتح على التمثيل في هذه الهيئات التابعة للسلطة (المجلس التشريعي).
وفتح التي رأت في السلطة نواة الدولة ونجحت في الزحف تدريجياً بها للاقتراب من دولة وحصلت لها على شهادات الميلاد الدولية اللازمة لذلك، مطالبة بمراجعة هذه المسيرة الطويلة للتعلم من أخطاء الماضي والبناء على النجاحات الموجودة.
إن المحقق أن فتح دفعت فاتورة غالية جراء تكريس كل طاقاتها وراء السلطة وكانت علامته هي حالة الدمج والتماهي بين السلطة والحركة، لتدفع الأخيرة فاتورة أخطاء الأولى.
وإذا ما كانت حقاً المصالحة ستتم وستجرى الانتخابات التشريعية والرئاسية والوطنية كما يقولون، فإن فتح ستجد نفسها أمام مهام وتحديات جسام، فمن جهة عليها إعادة بناء نفسها وعقد مؤتمرها بما يحمله من تحديات وربما بعض الخاسرين والحاردين، ومن جهة أخرى عليها الالتفات لهذه الانتخابات وتجهيز نفسها من أجل خوضها بقوة واستعادة ما خسرته من مواقع في المجلس التشريعي في الانتخابات السابقة.
والتعلم من أخطاء الانتخابات الماضية بحاجة لأكثر من مجرد الإقرار بالأخطاء بل بناء استراتيجيات ومقاربات جديدة تحمل تصورات قادرة على الاستجابة لتحديات المرحلة.
إن فتح على عتبة النصف قرن بحاجة إلى أن تعود لنفسها أولاً ومن ثم تطور علاقتها مع الجماهير في الوطن والشتات حتى تحافظ على حضورها كحركة التحرر الوطني الفلسطيني بامتياز.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد