في ظل الحديث الذي يدور حول مفاوضات أو تفاهمات أو رسائل تنقل بين إسرائيل وحركة حماس حول تهدئة طويلة الأمد في قطاع غزة مقابل تسهيلات تقدمها إسرائيل للقطاع تخفف من الحصار عليه، فإن النقاش يدور حول تعزيز الإنقسام وتمكين عملية فصل قطاع غزة وبالتالي ربما حكم قطاع غزة بمعزل عن مجمل الكيان السياسي الفلسطيني. وبعبارة أخرى فإن القلق يكمن في خلق دولة غزة التي تكون محصورة في الشريط الساحلي لفلسطين، وبالتالي يتم اختصار فلسطين في غزة بعد أن كانت غزة في لحظة تاريخية هي آخر ما يحمل اسم فلسطين.
بالطبع الحديث لا يدور عن دولة بالمعني السياسي إذ أن القصد هو تقديم تسهيلات إنسانية مقابل تنازلات سياسية، وهي بالتالي دولة إنسانية وليست سياسية بأي حال من الأحوال. بمعني أنها تشكل مقاربات إنسانية خدماتية لأزمة سياسية. لم تكن ازمة قطاع غزة المكتظ بالسكان والذي تعوزه الكثير من البنية التحتية وآفاق التطور والتمدد العمراني والاقتصادي، أزمة إنسانية بل هي دائماً أزمة سياسية. فالقطاع هو المستودع الأكبر للاجئين الفلسطينيين الذي تشكل قضيتهم قلب القضية الفلسطينية وجوهرها. ولن تحل مشاكل قطاع غزة ب فتح ميناء ومطار في القطاع أو بانتظام حركة المعابر من أجل أن يدخل الشبس والعصائر، إذ أن لحظات تاريخية سابقة شهدت حركة نشطة على المعابر وكانت الطائرات تقلع من القطاع إلى فضاء العالم الرحب، وكانت الميناء في طور النجاز، والمعابر لا تغلق، لكن هذا لم ينه مشكلة قطاع غزة. فالمشكلة بداية ليست خاصة بالقطاع، بل هي جزء من ازمة اكبر هي نكبة شعب فلسطين واحتلال أرضه. وعليه لا يستقيم حال القطاع بفصل مصيره عن مجمل المصير الوطني.
لم تكن يوماً ازمة الشعب الفلسطيني أزمة خدمات ومياه وكهرباء وتنقل وطعام. بل هي كانت ومازلت قضية سياسية بإمتياز. شعب هجر من ارضه وسلبت أرضه وحرم من حقه في إقامة دولته الخاصة به، بالتالي فإن أي حل لهذه القضية لابد أن يشتمل على استعادة الحق المسلوب وممارسة الحق المصادر. وكان يمكن للشعب الفلسطيني في لحظات تاريخية سابقة أن يقبل أن تكون أزمته إنسانية او قضية لاجئين تركوا منازلهم نتيجة حرب متكافئة تمت بين طرفين وبالتالي فإن توطينهم حيث يسكنون وتطوير الخدمات لهم بشكل مناسب يشكل مدخلاً لحل أزمتهم. هذا سيشمل إلى جانب أشياء كثيرة إنهاء قضيتهم والإقرار بأن القصة قصة مسكن ومأوى. هذه المقاربة «الحقوق إنسانية» هي ما يختصر الحقوق الوطنية بحق المواطن العادي – مثله مثل مواطن أي دولة في العالم- وهي حقوقه الإنسانية المكفولة في ميثاق حقوق الإنسان والعهدين الدوليين حول ذلك. لا يبدو لدي إسرائيل مشكلة في مثل هذه المقاربات النيوليبرالية في التعاطي مع الحقوق الفلسطينية حيث يتم وضع الاحتلال وما راكمه من مآسي وما مثله من استلاب للحقوق في ذيل أي نقاش امام الحاجة لتطوير حياة المواطنين ومنحهم الحقوق الإنسانية التي يتمتع بها بنو جلدتهم في البلدان الأخرى.
وقد تذهب مثل هذه المقاربة إلى الارتكاز على الاقتصاد بوصفه المدخل الأكثر إغواءً من اجل تطوير حياة الناس. وهي وجهة نظر تفسر مقاربات مؤسسات «بريتن وودز» القائمة على التركيز على قطاع الخدمات بوصفه الأقدر على تلبية احتياجات المواطن لا تعزيز الدولة، وتحديداً في العالم الثالث وما يعرف بالدول الآيلة للسقوط، حيث ما يهم ليس الدولة بل المواطن الذي لا بد من كبح جماح تطلعاته الوطنية.
وإذا كان الأمر كذلك، فيجب تسخير كل الإمكانيات من اجل تطوير القطاعات التي تلامس حياة المواطن دون البحث في السبب الحقيقي لعدم وجود هذه الخدمات. وبالطبع يتم عادة استجلاب نظريات التنمية لتفسير الحاجة للحكم الرشيد من أجل استدامة التنمية.
من هنا، فإن الحديث عن صفقات ومشاورات وعروض تتعلق بمصير قطاع غزة لا يختلف كثيراً عن الجهود السابقة التي بدأت قبل مشروع روجرز والتي هدفت إلى تصفية القضية الوطنية. صحيح أن سكان قطاع غزة يحتاجون ان يعيشوا حياة آمنة ويتمتعون ببعض الرخاء الاقتصادي، لكن لا يمكن لذلك أن يتم بمقايضته بالحقوق الوطنية، إذ أن المطار والميناء الذي سيتم انشاؤهما سيكونان عرضة للتدمير في أي لحظة رأت إسرائيل ذلك لأنهما تما بموافقتها ووفق اتفاق معها. حيث لا يمكن أن يكون ثمن ثلاثة حروب هو العودة إلى ما كانت عليه الامور قبل حصار غزة وتدمير مينائها ومطارها. إن ثمن تلك البطولات العظيمة التي قدمها شعبنا تتطلب موقفاً سياسياً موحداً يدفع المطالب الوطنية إلى الأمام ولا ينظر تحت «رجليه» ويتعامل بردات فعل عديمة الحكمة.
على حركة حماس أن تلتفت جيداً للمخاطر التي قد تنجم عن مثل هذه المجازفات غير المحسوبة وأن لا تقع في أخطاء تاريخية لا يمكن غفرانها. كان يمكن لإسرائيل أن تحتفظ بقطاع غزة حين احتلته عام 1956 وتكتفي بالانسحاب من سيناء، لكنها فرحة خرجت من القطاع حتى يظل وحيداً، وكان يمكن لياسر عرفات أن يقبل دولة في غزة خلال مفاوضات أوسلو لكنه أصر على أن تكون غزة + أي مدينة من الضفة الغربية، وكان يمكن له أن يحاصر في غزة لكنه كان يعرف أن الصراع على فلسطين وليس على غزة. حماس بحاجة للخروج بموقف صريح حول ذلك حتى إن كان بعض قياداتها قد أخطأت التقدير والتصرف والتصريح فإنه يمكن استدراك الامر.
إن تشكيل حكومة وحدة وطنية ذات برنامج وطني يتطابق مع المسيرة السياسية والتطلعات الوطنية وحده يمكن أن يساهم في إنهاء هذا النقاش العقيم. حكومة قادرة أن تحكم ومخولة بذلك وممنوحة الصلاحيات على الأرض.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد