لم يعد الناس يتابعون أخبار السياسة، ولا يشعرون بالحزن للانسداد المطلق في العملية السياسية، ولا يذرفون الدموع حزنا على غياب المفاوضات، ولن يضحكوا فرحاً لو استؤنفت اليوم أو غدا أو بعد غد، والناس دائما على حق، فكل عناوين السياسة الراهنة جربوها وشعروا بالخذلان جراء ما آلت إليه، شعرت غالبيتهم بالسعادة حين سنحت فرصة أوسلو، وعبروا عن سعادتهم ببلوغ أعلى نسبة تصويت للانتخابات التشريعية والرئاسية التي أتت بها أوسلو، وكان ذلك بفعل الشعور شبه اليقيني بأن الناس ذاهبون إلى دولة محققة، وأن رفع العلم على الدولة الفلسطينية المستقلة صار مسألة وقت.

لا أجرؤ على القول أن كل هذا تبدد لأن الكلمة الأخف هي تعثر، والتعثر حين لا نجيد التعامل معه هو أقرب إلى التبدد والتلاشي، وفوق أوسلو وخيباتها واحباطاتها مع أنها كانت الأهم في المسيرة الفلسطينية، فهنالك ما فعلناه بأنفسنا حين اقتتلنا على تقاسم الدب قبل اصطياده، وبفعل هذا الاقتتال صار البلد الواحد بلدين، والحلم الواحد كابوسين، والمصير الواحد تفرق على مصائر مجهولة لا نعرف أيهما سيفرض نفسه على حياتنا وحياة أبنائنا وأحفادنا.

لم يعد أحد يتابع أخبار الانقسام تماما مثلما لم يعد يتابع أخبار المفاوضات، ذلك ليس نوعا من اللامبالاة الجمعية، وإنما نتيجة حتمية لفشل ظاهر على المستويين السياسي والداخلي، والإيجابي في هذا الواقع السلبي هو أن الناس لم يستسلموا لفشل الطبقة السياسية، فحيدوا أنفسهم عن هذا الفشل وأخذوا زمام المبادرة في مواصلة حياتهم وصمودهم وتعزيز قدراتهم على بناء واقع فيه من قوة الحياة أكثر بكثير مما فيه من إحباط السياسة.

وفي هذا الشهر بالذات تجلّت هذه الحقيقة بأسطع صورها ومضامينها، ووفق الروزنامة فإنه شهر النكبة والنكسة والكارثة، وما أعنيه بالكارثة هو انقسام البلد الذي حلت ذكراه الثامنة.

وفي مقابل هذه المناسبات غير السعيدة بالطبع، ظهرت البدائل الشعبية القوية والفعالة متجاوزة فشل السياسيين ومؤكدة الحضور الوطني بصورة أكثر جذرية وديمومة، لم يتوقف الناس عن البناء، لم تتوقف المدارس عن استقبال الآلاف، ولم تتوقف الجامعات عن رفد المجتمع بعشرات آلاف الخريجين على نحو نستطيع القول بعد سنوات قليلة أن لا أحد في الشعب الفلسطيني لا يحمل شهادة جامعية.

إن الذي يخدم حقوق الشعب هو الشعب نفسه، وما كان لنا أن نحلم بقدسنا لولا الناس المتشبثون بالبقاء على أرضها حراسا على وجودنا في شوارعها وحواريها وآثارها ومقدساتها، واخترت القدس كرمز لأنها الأصعب والأهم، أما إذا انتظرنا إلى باقي مكونات الوطن الفلسطيني، والشعب الفلسطيني داخل فلسطين وفي كل أنحاء العالم فإننا نلمس ذلك التشبث المجيد بالهوية والهدف دون اكتراث لتعثر تفاوضي أو انسداد للعبة لم تعد مجدية، وهذا هو سر القوة الفلسطينية، سر نمائها وتجددها رغم تعاظم التحديات وتآكل الرهانات وفشل السياسة والسياسيين.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد