في خطابه لمناسبة النكبة ، حدد الرئيس محمود عباس شروطه لاستئناف المفاوضات، وهي: "تجميد الاستيطان، والإفراج عن الدفعة الرابعة من أسرى ما قبل أوسلو، والدخول في مفاوضات متواصلة لمدة عام تنتهي بتحديد جدول زمني لإنهاء الاحتلال حتى نهاية العام 2017"، وهي شروط ليّنة حتى لواحد مثل نتنياهو.
فالرئيس لم يربط شروطه بموافقة إسرائيلية على أي شيء آخر، مثل الاستعداد لإنهاء الاحتلال، أو وقف المخططات العدوانية والعنصرية في القدس التي تستهدف استكمال تهويدها وأسرلتها وطرد ما تبقى من سكانها، ورفع الحصار عن قطاع غزة ووقف العدوان عليه، ولم يربط - كما دأب في الآونة الأخيرة - استئناف المفاوضات بصدور قرار من مجلس الأمن يحدد سقفًا زمنيًا لإنهاء الاحتلال، ولا أن تعقد في إطار مؤتمر دولي وعلى أساس القانون الدولي وقرارات الأمم المتحدة .
يمكن أن يعتبِر نتنياهو شروط الرئيس طوق نجاة له. فاستئناف المفاوضات من شأنه وقف سياسة التدويل متعددة الأشكال التي شرعت فيها القيادة الفلسطينية، وقطع الطريق على العزلة الدولية والعقوبات المحتملة على إسرائيل، خصوصًا الأوروبية، وعلى تزايد المقاطعة المرشحة للاتساع، إضافة إلى إضعاف الدور المأمول لمحكمة الجنايات الدولية بعد سريان الانضمام الفلسطيني إليها.
يمكن لنتنياهو الموافقة على إطلاق سراح أسرى ما قبل أوسلو، ووقف البناء في المستوطنات، ولكن بعد إفراغه من مضمونه مثلما فعلت حكومته في العام 2010، بتنفيذ مسرحية "التجميد" الجزئي والمؤقت للاستيطان التي لم تشمل القدس ولا الكتل الاستيطانية ولا المشاريع القائمة والعطاءات المصادق عليها. لعل هذا الاحتمال وارد لأن "الليكود" رفض في المشاورات الائتلافية لتشكيل الحكومة الالتزام نصًا بعدم اللجوء إلى أي شكل من أشكال تجميد الاستيطان، مع أنه التزم فيها بتوسيع الاستيطان. طبعًا يمكن أن يعارض شركاؤه الأكثر تطرفًا أي نوع من أنواع التجميد للاستيطان، وهذا سيجعل نتنياهو في وضع أصعب دوليًا، وعلى صعيد علاقاته مع أميركا وأوروبا.
ماذا يقف وراء هذه العودة الفلسطينية المفاجئة لسياسة المفاوضات حتى بعد تشكيل الحكومة الإسرائيلية الجديدة؟
في مقال في صحيفة "هآرتس" الإسرائيلية كتبه حامي شليف تحت عنوان "هل ينقذ عباس نتنياهو؟"، جاء فيه "أن الشروط اللينة التي طرحها عباس لاستئناف المفاوضات لا تبدو عالية جدًا حتى لنتنياهو، الذي يمكنه أن يوافق على إطلاق سراح أسرى، وعلى صيغة ما من تجميد الاستيطان، وعلى مفاوضات متواصلة لمدة سنة مع الهدف المجرد (إنهاء الاحتلال حتى العام 2017)"، وأضاف: "من شأن أي استئناف للعملية السلمية أن يُنزل ضربة قاضية لكل من يتمنون الشر لنتنياهو".
ويراهن شليف على "أن أبو مازن سينقذ نتنياهو لأنه يعيش ويموت حسب نوايا إسرائيل، فإذا تجاوز السقف المنخفض جدًا الذي سيثير جنون القدس (أي الحكومة الإسرائيلية) ستتزايد أصوات المتهورين الذين سيطالبهم بخطوات من جانب واحد يمكن لنتيجتها أن تنهي سلطة عباس".
قد يكون شليف صائبًا لأن أبو مازن يخشى كما تدل تصرفاته من تفعيل تدويل القضية الذي شرع فيه، بدليل أنه يبدو مترددًا في تقديم مشروع قرار جديد إلى مجلس الأمن، وفي تطبيق قرارات المجلس المركزي بوقف التنسيق الأمني وتحميل الاحتلال المسؤولية عن احتلاله، وفي تفعيل الانضمام الفلسطيني إلى محكمة الجنايات، والمقاومة الشعبية.
كما يبدو الرئيس مترددًا في إنهاء الانقسام واستعادة الوحدة الوطينة، لأنه يعرف أنه إذا أقدم على كل ذلك سيدخل في مواجهة كبيرة مع حكومة إسرائيلية هي الأكثر تطرفًا واستعدادًا للتهور في ظل وضع عربي وإقليمي ودولي غير مناسب له، لذا يبدو أن أبو مازن يرى أن إبقاء الباب مفتوحًا لاستئناف المفاوضات، واستئنافها فعلًا إذا تجاوب نتنياهو مع شروطه اللينة أهون الشرور. مع أن هذا الطريق هو نفسه الطريق الذي سار فيه منذ استلامه لسدة الرئاسة ولم يحقق أهدافه، وإنما وصل إلى وضع أقل ما يقال عنه فيه بأنه "لا يحسد عليه".
بالرغم من الأخطار والأضرار الناجمة من اعتماد طريق جديد يبدأ بإغلاق نهائي لا رجعة عنه لطريق المفاوضات المباشرة برعاية أميركية أو دولية شكلية؛ إلا أنه ي فتح آفاقًا مستقبلية تؤدي إلى إنقاذ القضية والأرض والشعب.
ما يجعل أبو مازن أيضًا يفكر بالعودة إلى المفاوضات خشيته من أن يطرح نتنياهو مستغلًا الالتقاء الخليجي العربي - الإسرائيلي ضد إيران مبادرة لتحقيق سلام إقليمي تقزّم الطرف الفلسطيني، وتُدخِل الأطراف العربية إلى المفاوضات، ولإغرائها يلوّح باستعداده للتعاطي مع "مبادرة السلام العربية"، في حين أنه يستهدف استكمال تصفية القضية الفلسطينية؛ ويأسه من أي تغيير جوهري محتمل على السياسة الأميركية في ظل التوترات الأميركية – الإسرائيلية، وبعد إعلان الإدارة الأميركية أنها بصدد إعادة تقييم سياستها إزاء العملية السياسية. فما صرح به أوباما في الآونة الأخيرة بأن التوصل إلى اتفاق احتمال بعيد جدًا الآن، وأعرب عن تشاؤمه إزاء إمكانية استئناف المفاوضات في ضوء تركيبة الحكومة الإسرائيلية الجديدة.
وأشار أوباما بوضوح أنه لا يمكن التوصل إلى اتفاق كبير وشامل خلال السنة القريبة، وعزا السبب وراء عدم تحقيق تقدم خلال السنوات الست التي أمضاها في البيت الأبيض إلى أن المعايير السياسية للزعيمين (لاحظوا أنه يساوي بينهما في تحميل المسؤولية) تغلّبت ولم تسمح لهما باتخاذ القرارات المطلوبة، وأن الخوف أقوى من الأمل، وسيستغرق الأمر فترة زمنية لإعادة بناء الأمور مجددًا؛ لذا سيركز أوباما على محاولة إعادة بناء الثقة بين الجانبين من خلال إعادة إعمار غزة وتحسين الوضع الاقتصادي، وأضاف "إذا نجحنا في إعادة بناء الثقة تدريجيًا فإنني أؤمن بأن حل الدولتين سيعود إلى مكانه".
ما سبق يدل على أن إعادة تقييم السياسة الأميركية التي وعد بها أوباما تمخّضت فولدت فأرًا، فبعد أن دعت إدارته إلى انتظار نتائج الانتخابات الإسرائيلية، دعت بعد ذلك إلى انتظار تشكيل الحكومة، وثم صرّح مسؤولون أميركيون بأن أوباما ينتظر رؤية تصرف الحكومة الإسرائيلية الجديدة، وما إذا كان نتنياهو سيقوم بخطوات توضح التزامه بحل الدولتين.
كما أشارت مصادر أميركية إلى أن أوباما لم يقرر بعد بخصوص استخدام الفيتو على المقترح الفرنسي أم لا، وحتى في حال امتنعت الولايات المتحدة عن التصويت، فهذا سيكون في حالة واحدة، هي إفراغ المشروع الفرنسي من مضمونه وتحويله إلى مجرد مدخل لاستئناف المفاوضات لا أقل ولا أكثر، ولا يغير من عمق الالتزام الأميركي تجاه إسرائيل، خصوصًا أن ليس هناك ما يضغط على إدارة البيت الأبيض فلسطينيًا وعربيًا في ظل الضعف والانقسام والتردد الفلسطيني، وعدم الجرأة على المضي في اعتماد خيارات أخرى، وما يجري في المنطقة العربية من حروب وصراعات داخلية، وبعد تزايد الاحتمال بالتوصل إلى اتفاق نهائي حول البرنامج النووي الإيراني وحاجة أوباما إلى الكونغرس لتمرير هذا الاتقاق الذي يعتبره إنجازه الأكبر، فهو ليس بوارد توجيه ضربة أخرى لإسرائيل من خلال تغيير السياسة الأميركية إزاءها، بل ربما يكون معنيًا بترضيتها.
إن ما يبقي على قدر قليل من الاهتمام بما يجري عندنا يعود إلى الخشية من تدهور الموقف بشكل شامل إذا استمر الوضع الحالي على ما هو عليه حتى من دون مفاوضات، إلى حد الفوضى وانهيار السلطة، وعودة الصراع بين الفلسطينيين والإسرائيليين إلى طبيعته الأصلية بوصفه صراعًا بين الاحتلال والشعب الواقع تحته من دون خداع ما يسمى "عملية السلام".
السعي لوقف التدهور والانهيار يفسر استمرار التحركات الأميركية والأوروبية والدولية وتقاطر وزراء الخارجية الأوروبيين إلى المنطقة في محاولة لاستكشاف إمكانية استئناف المفاوضات، وإذا تعذر ذلك يمكن أن يكون هناك تقدم في العملية السياسية حتى من دون مفاوضات كما ترى وزيرة خارجية الاتحاد الأوروبي فيديريكا موغيريني. فالمهم العملية وليست النتائج التي يمكن أن تتوصل إليها، فاستمرار العملية يقطع الطريق على الخيارات والبدائل الفلسطينية الأخرى.

Hanimaseri267@hotmail.com

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد