ما صرح به قائد المنطقة الجنوبية في جيش الاحتلال الإسرائيلي يوم الاثنين الماضي حول المصالح المتبادلة بين « حماس » وإسرائيل في استمرار الهدوء في غزة والجبهة الجنوبية والتصدي للتنظيمات المتطرفة، ورغبة إسرائيل في الإبقاء على «حماس» عنواناً قوياً في غزة، ينسجم مع ما تتداوله وسائل الإعلام الإسرائيلية بكثرة عن حوار واتصالات وربما مفاوضات بين «حماس» وإسرائيل حول موضوع التهدئة أو الهدنة طويلة الأمد. ويتوافق مع ما كان صرح به القيادي في «حماس» أحمد يوسف الذي تحدث قبل فترة بكل وضوح وجرأة عن دردشات تجري بين «حماس» وإسرائيل بوساطة أوروبية «تتعلق بملفي التهدئة والميناء»، و»الهدف هو إيجاد مخرج لقضية الحصار، وذلك ب فتح ممر بحري للتواصل مع العالم الخارجي».

الحديث عن مفاوضات بين «حماس» وإسرائيل ليس من باب الافتراء على «حماس» أو اتهامها بفعل لم تقم به كنوع من تشويه السمعة أو القذف والتشهير، بل هو في الواقع حقيقة دامغة لا يساعد «حماس» أن ينفي ذلك بعض قادتها مثل اسماعيل رضوان الذي نفى أن يكون د. أحمد يوسف يمثل «حماس» وأن « لا حوار ولا اتصال مع الاحتلال إلا من خلال البندقية»، فالواقع أكبر ولا يحتاج الناس إلى تعليق أحمد يوسف على هذه الأقوال ومطالبته رضوان بالاعتذار عن كلامه. والهم الأكبر لـ»حماس» هو موضوع الحصار كما يقول يوسف، خاصة بعد أن سقط نظام الرئيس محمد مرسي في مصر وأغلقت مصر الأنفاق والمعبر في وجه «حماس» وغزة بشكل عام. فالضائقة الاقتصادية والسياسية التي تمر بها «حماس» بعد التغيرات في الإقليم في غير صالح حركة «الإخوان المسلمين»، جعلت حركة «حماس» تفكر في مخرج من هذه الأزمة. والمخرج هنا هو إما الذهاب نحو المصالحة الكاملة وإنهاء الانقسام وعودة قطاع غزة لحضن السلطة الوطنية وتوحيد شقي الوطن، أو الذهاب نحو اتفاق مع إسرائيل على تهدئة طويلة الأمد تسمح فيها الأخيرة بفتح نسبي لقطاع غزة تجاه إسرائيل والعالم الخارجي عبر البحر من خلال ميناء يؤدي الغرض.
«حماس» المحتارة اختارت كلا الخيارين، ولم تحسم باتجاه أي منهما تسير حتى النهاية، فوافقت على اقتراح المصالحة الذي نقله عضو اللجنة المركزية عزام الأحمد لها فيما عرف لاحقاً باتفاق «الشاطئ» بشكل مفاجئ لدرجة فاجأت الأحمد نفسه، في لحظة كانت «حماس» تشعر بالضعف وتبحث عن خلاص لأنها لم تعد تتحمل عبء غزة ومشاكلها، ونجحت في التخلص من أن تكون عنوان المسؤولية عن مشكلات القطاع وألقت بها على حكومة «التوافق الوطني» الذي ينطبق عليها عنوان مسرحية عادل إمام «شاهد ماشافش حاجة»، فلا هي قادرة على بسط نفوذها وممارسة صلاحياتها في القطاع والقيام بدورها المنوط بها في اعادة الإعمار وفك الحصار، ولا هي خارج مسؤولية من الظلم أن تتحملها. ومن ناحية أخرى أبقت «حماس» الباب مفتوحاً للاتصالات مع الاحتلال علها تصل إلى اتفاق لا يكلفها التخلي عن السيطرة على غزة، خصوصاً وأن مقولة «تخلينا عن الحكومة ولم نتخل عن الحكم» لم تعد تصلح لمعالجة ملف الانقسام.
في الحقيقة «حماس» في وضع لا تحسد عليه أمام انهيار الكثير من الشعارات والأقاويل التي كررتها على مدار سنوات طويلة وخاصة التأكيد على عدم رغبتها في الحكم باعتبارها طالبة «شهادة» وليس طالبة كراسي، ليتضح بشكل لا يقبل التأويل أن المشكلة الأكبر والهدف الأسمى هو الحكم، وكل شيء مباح في سبيل الحفاظ عليه، ولكن في نفس الوقت من الصعب الإعلان عن ذلك صراحة، فالحركة التي تحكم بما «أنزل الله» وتنطق بشرعه، وتتبنى شعارات : لا حوار ولا مفاوضات ولا تنازل عن أرض فلسطين الكاملة باعتبارها وقفاً إسلامياً، تقبل في الواقع ما هو اقل بكثير من الذي قبلت بها فصائل منظمة التحرير وفي مقدمتها حركة «فتح» التي اتهمت بالخيانة على مجرد القبول بحل الدولة الفلسطينية المستقلة في الأراضي المحتلة منذ العام 1967، واتهمت مرة أخرى بالخيانة لقبولها «اتفاق أوسلو». ومن الطبيعي أن تشعر «حماس» بارتباك شديد وهي تسير بين الخط الذي رسمته الشعارات والواقعية الزائدة التي تتجاوز تنازلات الحد الأدنى المتفق عليها فلسطينياً.
العقل والمنطق يقولان أن الطريق الوحيد لفك الحصار وانهاء معاناة غزة يمر عبر انهاء الانقسام والوحدة الوطنية الكاملة والشراكة السياسية القائمة على اجراء انتخابات جديدة تحدد موازين القوى وحصة كل طرف، وإلى ذلك الحين هناك حلول مؤقتة تقوم على ايجاد صيغ مؤقتة مقبولة على الجميع وتضع حداً لمأساة الانقسام. والمصلحة الحزبية الضيقة القائمة على الاستئثار بجزء من الوطن باعتباره الحصة المباركة من الكعكة تقول لنذهب نحو اتفاق مع إسرائيل نضمن فيه الحفاظ على سلطتنا وحكمنا إلى أن تتغير الظروف ويتحقق لنا الاستيلاء على باقي الكعكة، وهذه المصلحة محفوفة بالمخاطر ليس فقط على مستوى صدقية الحركة أمام الشعب والقوى الأخرى، بل وأمام أعضائها وكوادرها الذين تربوا على برنامج وشعارات تتهاوى تباعاً على مذبح المصالح الفئوية. وعلى «حماس» أن تختار بين أحد الأمرين لا أن تبقي رِجلاً في خانة المفاوضات مع إسرائيل والرِجل الأخرى في خانة الحوارات من أجل المصالحة. وفي هذا السياق، هناك دور على القوى الوطنية الأُخرى أن تلعبه لجر «حماس» نحو مربع المصالحة وعدم الدفع بها إلى المربع الآخر، وهذه مسؤولية وطنية عليا لا ينبغي اغفالها.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد