عدنا مرة أُخرى لنفس المسرحية التي ترافق كل زيارة تقوم بها حكومة التوافق للشطر الثاني من الوطن، هذه الزيارات التي تشبه الوضع الفلسطيني بقبرص المنقسمة إلى دولتين واحدة تابعة لتركيا والأخرى لليونان، وكأنه لا يدور الحديث عن نفس الوطن بل عن كيانين منفصلين يصعب أن يلتقيا على موقف. فالحكومة تتهم حركة " حماس " بأنها حاصرت الوزراء في الفندق ومنعتهم من التوجه لوزاراتهم كما حظرت على الموظفين القدامى لقاء وزرائهم، كما أنها استقبلت زيارة الحكومة بسلسلة تفجيرات استهدفت بعض الأماكن منها مقر الحكومة المؤقت. و"حماس" بدورها تتهم الحكومة بالتراجع عن تفاهمات كانت قد توصلت إليها مع نائب رئيس الوزراء الوزير زياد ابو عمرو . والفصائل الفلسطينية الأخرى تلوم "حماس" لأنها تراجعت عن اتفاق على حصر الموظفين القدامى تمهيداً لدمج الموظفين جميعاً وايجاد حل شامل لقضيتهم على أساس الورقة السويسرية على ما يبدو، وإن كانت بعض الفصائل توجه لوماً خفياً للحكومة.
باختصار عدنا إلى المربع الأول بشكل أكثر مرارة ومأساوية في ظل فرض ضرائب جديدة على مواطني قطاع غزة اقرها المجلس التشريعي الحمساوي بطريقة منفردة وخارج إطار القانون وكأن "حماس" تقول بصورة واضحة أنها لا تعترف بالحكومة ولا تقر بأن لها أية صلاحية بما فيها صلاحية جباية الأموال، وعملياً هذه الضريبة كما غيرها من الضرائب التي تفرض على مواطني القطاع لأنهم من يتضرر وليس التجار، علماً بأن أي تاجر تفرض عليه ضريبة يأخذها في الاعتبار عند تحديد الثمن الذي يطلبه من المواطن، ونحن هنا أيضاً أمام معيار جديد تفرضه "حماس" على الناس في تصنيف الحاجيات الضرورية وغير الضرورية في موضوع الضريبة الجديدة التي ستتم على سلع تقول أنها غير أساسية مثل اللحوم، فمن الترف أن يأكل مواطنو غزة اللحوم، والأفضل أن يصبحوا نباتيين طبعاً على الا ينطبق على مناسف الزعامات التي تفكر ليل نهار كيف تمص دم المواطن وتجعله يلهث وراء لقمة العيش إن استطاع إليها سبيلاً.
لا شك أن لدى الحكومة مشكلات وأنها لا تتحدث بصوت واحد أو لغة واحدة وأن مندوبيها المختلفين يحاولون تحقيق انجازات قد تكون وهمية ويصرحون كثيراً بداعي أو بدون، ولكن "حماس" حتى اللحظة لم تظهر أنها على استعداد لتمكين الحكومة من أداء مهامها، وبالأحرى هي ليست في وارد التنازل عن الحكم حتى لو جزئياً لجهة يمكنها أن تخفف العبء عليها وتتحمل وزر الانقلاب وتبعاته. والأنكى أنه بمجرد أن عاد الوزراء أدراجهم إلى رام الله يصرح عضو المكتب السياسي في "حماس" زياد الظاظا أن حركته "انتهت من وضع كافة البدائل لحل أزمات القطاع المختلفة"، وأن الإعلان عن هذه البدائل بات وشيكاً. فلو افترضنا أن هذا صحيح فالموضوع هنا مبيت وليس وليد اللحظة أي أنه جرى الترتيب والإعداد لذلك قبل وصول الحكومة إلى غزة، أي أن إفشال الحكومة كان مقصوداً لتنفيذ سياسة أحادية تماماً كما في القرار بشأن فرض ضريبة جديدة على غزة. وكأن هذا ما تحتاجه هذه المنطقة المنكوبة بالانقلاب والحصار والحروب. وهذا مرة أخرى يقول لنا بوضوح لا تصدقوا ادعاءات من يتباكى على غزة وحصارها فالتجويع والإذلال هو أيضاً سياسة حزبية وليست فقط سياسة الأعداء.
وعودة إلى بدائل "حماس" لمعالجة مشكلات غزة، فالمشكلة الأكبر هي الحصار وهذا لا يتم فكه إلا بالتوافق الفلسطيني أو بالاتفاق مع مصر وهذان الأمران ليسا على الطاولة، أو بالاتفاق مع إسرائيل ومعنى ذلك دولة غزة والهدنة طويلة الأمد وضياع المشروع الوطني، فهل تقصد قيادة "حماس" أن هذا هو البديل الذي تلوح به ؟!
بطبيعة الحال أي خيار غير توحيد شقي الوطن يتماشى تماماً مع رغبة إسرائيل وسياسة اليمين المتطرف فيها، وسبق وذكرنا أن إسرائيل تبني سياستها للفترة الحالية وعلى المدى المنظور على إخراج قطاع غزة من حساباتها جغرافياً وديمغرافياً، واستبعاد مليون وثمانمائة ألف مواطن من الديموغرافيا المرتبطة بالمناطق التي تريد الاحتفاظ بها، يعني بقاء الأغلبية اليهودية في الضفة وإسرائيل مجتمعتين، والأخطر هو استثناء قضية اللاجئين الذين يشكلون 60% من سكان قطاع غزة.
ليختلف الفلسطينيون كيفما شاؤوا ولتقل بعض القيادات ما شاءت من شعارات ثورية تبدأ بالمقاومة وتنتهي بالسعي لشطب إسرائيل، فالحقيقة الأكيدة أن القضية الفلسطينية يجري شطبها بأيدٍ فلسطينية. وهذا بطبيعة الحال لا يبرئ الاحتلال، ولكن من يتساوق معه بقصد أو بدون قصد يساهم مساهمة كبرى في تدمير الحلم الفلسطيني بالحرية والاستقلال، فلا دولة بدون غزة ولكن فكرة دولة غزة تروق للبعض حتى لو كان هذا نظرياً. والمشكلات القائمة الآن حول تفاصيل تمكين الحكومة وانجاز ملف الوحدة والمصالحة ليست فنية أو شكلية بل هي في واقع الحال أخطر من ذلك بكثير وليس من باب المبالغة أن نقول أنها تتعلق بجوهر المشروع الوطني الفلسطيني. ومن يريد استقلالاً ودولة فالدولة تبدأ بتوحيد شقي الوطن ولن يتبرع أي طرف في هذا الكون للضغط من أجل فلسطين وفرض هذا المطلب على الاحتلال بدون أن يرى الجميع أننا جديرون بدولة، وفي ظل الانقسام نحن جميعاً فاشلون بامتياز ومجرمون بحق أنفسنا ونقدم خدمة جوهرية لإسرائيل في سياسة استمرار فرض الأمر الواقع على فلسطين لشطب خيار الدولة المستقلة. وأكثر من ذلك سيكتشف الواهمون بأن دولة أو كيان غزة لا أفق له لأنه سيبقى محاصراً إلى الأبد.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد