طوال الأيام الماضية، وأنا في حيرة شديدة في أمري حول ماذا أكتب؟ هل أكتب عن المأساة المستمرة منذ سنوات عدة التي يعاني منها الفلسطينيون في سورية، وتحديداً في « مخيم اليرموك »، أم عن مأساة جدل الثورة والمؤامرة التي تعاني منها كل المنطقة، خصوصاً سورية والعراق وليبيا والسودان واليمن ومصر؟
«اليرموك» مخيم عزيز جداً عليّ، حيث قضيت فيه أكثر من سبع سنوات، ابتدأت بعد الخروج من لبنان، فكانت سنوات شهدت بقايا عهد النهوض والثورة وبداية الهبوط. وفي هذه الفترة تعرفت فيها إلى شريكة حياتي ورزقت بأولادي هناك. وأتألم حين أسمع أنّ المعارك والدمار والموت يتركز في «شارع لوبيّة» و»ملحمة أبو حشيش»، فهذه الأماكن عشت فيها وأعرف سكّانها، مع أنه لم يبق منهم الكثير، فمنهم من قضى نحبه ومنهم من أُجبر على الرحيل. ويؤلمني أنني لا أستطيع أن أفعل شيئًا لإنقاذ من تبقى في المخيم أو لمساعدة من تشرّد في سورية وخارجها على امتداد العالم.
إن القيادة والفصائل على اختلافها تقف عاجزة ولا تملك سوى المناشدة وتوسل الأطراف والمقاتلين والمجتمع الدولي. لماذا العجز إلى هذا الحد؟ لماذا لم نساعد على إخراج من تبقى في المخيم وضمان حياة كريمة لهم في المهجر الجديد داخل سورية أو خارجها، مع أن الفلسطيني ممنوع من الهجرة لأنه فلسطيني؟
لماذا لم تُشكّل قوة فلسطينيّة لحمايّة أهل المخيم، وتمكينهم من الدفاع عن النفس مع تحييد المخيم وبقائه بعيدًا عن الحرب والقتل وقطع الرؤوس والحصار والقصف؟ لماذا لم تبادر القيادة والقوى والشعب بأوسع حملة سياسيّة شعبيّة إعلاميّة متواصلة تتناسب مع مستوى الخطر الذي يتهدد المخيّم، الذي وصف يومًا بـ»عاصمة الفلسطينيين في الخارج»؟
هل أكتب عن الاتفاق بالأحرف الأولى حول البرنامج النووي الإيراني، وما يمكن أن يؤدي إليه من تأثيرات وتغييرات على المنطقة، بل على العالم كله، وأهميّة أن تربطنا علاقات جيدة مع إيران رغم نقاط الخلاف والافتراق معها، التي حاربها العرب «كرمال عيون» أميركا، وها هي أميركا تصالحها تاركة العرب في مواجهة مصيرهم وحدهم، ومع تركيا رغم الخصومة العربيّة معها. فالجارتان فَتَحَ الفراغُ العربيُ شهيّةَ أطماعهما في المنطقة، وقبل أن نلومهما يجب أن نلوم أنفسنا على ما فعلوه.
إنّ مصدرَ المخاطر التي تهدد المنطقة الاستعمارُ القديمُ والجديدُ وأداتُه إسرائيل، بالرغم من الإيحاء بأنهما خارج المشهد الحالي، فهنا تكمن أحد الجذور العميقة لكل ما تعانيه المنطقة، بما في ذلك ظاهرة التطرّف والإرهاب الأعمى الذي يتغطى بالدِّين، والدين بريء منه براءة الذئب من دم يوسف بن يعقوب، فهذه الظاهرة هي نتيجة خيبة أمل شاملة مما تعانيه شعوب المنطقة. وثمة جذر آخر لما تعانيه المنطقة يتمثل في أنظمة الاستبداد والفساد والتبعيّة والدول الفاشلة.
هل أكتب عن آخر فصول حرب «داحس والغبراء» بين «فتح» و» حماس »، بل الأحرى بين السلطتين المتنازعتين على فتات السلطة التي خلفّها الاحتلال، كما ظهرت من خلال استمرار تبادل الاتهامات وحملة الاعتقالات المتبادلة، التي وصلت هذه المرة إلى اعتقال نائب في المجلس التشريعي من «فتح» في قطاع غزة ، في نفس اليوم الذي تم فيه اعتقال النائب خالدة جرّار، لتنضم إلى كل النواب المعتقلين في سجون الاحتلال، لنثبِت مرة أخرى أن «لا حدا أحسن من حدا»، وأنّ النائب مساوٍ لبقيّة المواطنين فلا حصانة له ولا «ما يحزنون»!
أم أكتب عن الأزمة التي ظهرت من خلال استقالة محمد مصطفى وما تفتحه من إمكانيّة تعديل حكومي لا يسمن ولا يغني من جوع وحده، على خلفيّة خلافه مع رئيس الحكومة، أو مع وزير الماليّة، أو مع مسؤول «بكدار»، أو مع الأجهزة الأمنيّة والشؤون المدنيّة، أو مع كل الذين على علاقة ما، مباشرة أو غير مباشرة، بملف إعمار قطاع غزة.
هل أكتب عن اتهامات الرئيس المتكررة لـ»حماس» بأنها متورطة بالموافقة على خطة إسرائيل لإقامة «دولة فلسطينيّة مؤقتة» في قطاع غزة، على حساب القدس واللاجئين وبقيّة الأراضي الفلسطينيّة المحتلة، في نفس الوقت التي أكدت فيه «حماس» إجراءها اتصالات عديدة غير مباشرة، بوساطة أطراف عربيّة وإقليميّة ودوليّة، بينها وبين إسرائيل؛ طرحت فيها الأخيرة استعدادها لرفع الحصار عن غزة، والموافقة على إعادة بناء و فتح الميناء والمطار، مقابل هدنة طويلة الأمد، إضافة إلى وقف تهريب السلاح وتطويره وبناء الأنفاق.
فـ»حماس» - كما زعمت - لم تعقد أي اتفاق، لكنها تسعى من هذه الاتصالات إلى فك الحصار، الواجب الوطني الذي على السلطة ورئيسها وحكومتها القيام به، وأن هذه الاتصالات لا علاقة لها بالدولة ذات الحدود المؤقتة التي ترفضها، بدليل أنها تجاهد من أجل تحرير فلسطين من النهر إلى البحر.
وتتساءل «حماس»: كيف يحق لمن اعترف بحق إسرائيل في الوجود على 78% من أرض فلسطين والتزم بوقف المقاومة، لدرجة وصل بها التنسيق الأمني مع الاحتلال إلى محاربة المقاومة؛ أن يزايد على من خاض ثلاث حروب مع إسرائيل خلال أقل من خمسة أعوام، استطاع فيها الصمود والانتصار، وكبّد القوات المحتلة خسائر ملموسة، وجعل معظم إسرائيل تحت مرمى صواريخ المقاومة؟
تنسى «حماس» أن المقصود باتهامها بما سبق إظهار أن «ما حدا أحسن من حدا»، وأن أي اتفاق على هدنة طويلة في ظل الانقسام ومع استمرار القطيعة بين «حماس» ومصر سيؤدي بغض النظر عن النوايا إلى تحكّم إسرائيل بحركة الفلسطيني من غزة وإليها، وتمكينها من الاستفراد بالقدس والضفة، وتكريس الانقسام وتحويله إلى انفصال يصبّ كليًا في صالح إسرائيل، التي ستبقى متحكمة بالموقف كله بما يضمن تنافس الفريقين المتنازعين لإرضائها، وهي ستعطي لكل منهما جائزة وفقًا لمدى استجابته لشروطها.
كيف يمكن أن تساعد الهدنة طويلة الأمد على بقاء المقاومة التي قالت «حماس» إنها استولت على السلطة في غزة لحمايتها. وماذا يريد الرئيس من «حماس»، بل من غزة، من خلال عدم توفير متطلبات إنجاز الوحدة، بما يبرر الحديث عن توظيف الحصار وإعادة الإعمار والكهرباء وفتح المعابر وكل شيء للضغط من أجل قبول «حماس» لشروطه التي لا تحقق شراكة ولا مشاركة على أسس وطنيّة وديمقراطيّة، ولا تؤدي إلى اتفاق يخرج به الجميع منتصرين، وإنما إلى فرض شروط الاستسلام على «حماس» وإخراجها من «مولد السلطة بلا حُمُّص» رغم حصولها على الأغلبيّة في انتخابات المجلس التشريعي الأخيرة؟
هل سنبقى في مربع الصراع على السلطة، أم ندخل في حوار وطني عميق وشامل لوضع رؤية وتصورات قادرة على إخراج القضيّة الفلسطينيّة من المأزق الشامل الذي وجدت نفسها فيه؟
هل أكتب عن «عاصفة الحزم» وما يمكن أن تؤدي إليه من دمار وموت وحرب استنزاف عرفنا كيف بدأت ولا يعرف أحد متى وكيف ستنتهي؟
المفارقة العجيبة أن طرفي الاستقطاب في الساحة الفلسطينيّة التقيا جوهريًا على دعم الشرعيّة في اليمن من دون أن يلتفتا إلى أن الموضوع أكبر بكثير وأخطر من الشرعيّة التي يتمسكون بأذيالها، وأن «حرب اليمن» إذا لم تتم المسارعة إلى وقفها ستمتدّ نيرانها إلى دول الخليج العربي حتى يكتمل المشهد المأساوي؟
هل أكتب عن المحكمة الجنائية، وعن التأخر في تقديم القضايا، وعن تأجيل تطبيق قرار وقف التنسيق الأمني، أم عن الرواتب والموظفين والمقاطعة المتنامية لإسرائيل سياسيًّا واقتصاديًّا وأكاديميًا وثقافيًا، أم عن الخلاف الأميركي الإسرائيلي، أم عن تراجع مستوى المعيشة في العام 2015؟
هل أكتب عن «المبادرة الفرنسيّة» المنتظرة، التي ستؤدي بغض النظر عن بعض النوايا الحميدة التي تقف وراءها إلى تزويد عمليّة التسوية المحتضرة بأكسير الحياة، خصوصًا في ظل حديث الرئيس عن استعداده للتفاوض مع نتنياهو لأنه اختيار الناخب الإسرائيلي، مع أن نتنياهو أثبت حتى لحليفه الأميركي أنه ليس شريكًا في السلام، في حين أن المطلوب دفن هذه العمليّة التي وظّفتها إسرائيل لكسب الوقت واستكمال فرض الحقائق الاحتلاليّة على الأرض.
ما قيمة الكتابة إذا لم تدعم فعلا أو تمهّد له، أو تساعد على فعل من شأنه تغيير الواقع المؤلم الذي نعيشه إلى الواقع الذي نأمل أن نصل إليه.
Hanimasri267@hotmail.com

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد