هناك حقيقة يدركها الجميع في فصائل العمل الوطني والإسلامي وهي أننا شعبٌ مؤدلجٌ فكرياً وسياسياً ودينياً وثقافياً وجغرافياً، ولكنَّ الوطن يسكن فينا جميعاً، ويجري حبه في أعماقنا مجرى الدم في العروق. لذلك، فإن شعباً بهذه المواصفات النضالية العالية لا يُخشى عليه، لأنه قادر على المراجعة والاستدراك واستعادة زمام المبادرة.

كم كانت سعادتي غامرة وأنا أتابع مشاهدة أداء حكومة التوافق الوطني لقسم الولاء أمام الرئيس أبو مازن ظهيرة يوم الاثنين الموافق 3 يونيه 2014م، وما سبق قبل ذلك من لقاءات وتفاهمات انتهت بالتوقيع على "اتفاق مخيم الشاطئ"، لتحقيق المصالحة وإنهاء الانقسام في 23 أبريل 2014م ، حيث كانت غالبية النخب الفكرية والفصائلية والسياسية – للأسف - تشكك بإمكانية إنجاز ذلك؛ باعتبار أن بوصلة الحسابات الشخصية لأصحاب المصالح والامتيازات في الضفة الغربية وقطاع غزة غير وطنية بالدرجة الأولى، وأنها ستعمل على حرف المسار وتعطيله، لتحول دون تحقيق مثل هذا الطموح الوطني المنشود، وأن كل من استفاد من هذا الانقسام من مراكز القوى - هنا وهناك – سيعمل على تكريسه واقعاً والدفع باتجاه تأبيده، كما أن إسرائيل ستبذل كل جهودها الكيدية، وما تمتلكه من أوراق المكر والقوة السياسية والأمنية لإفشاله، وإذا أضفنا لهذا وذاك أن الولايات المتحدة الأمريكية كانت هي الأخرى تراهن على استمرار حالة الانقسام، لاستغلالها كورقة ضغط على الرئيس محمود عباس (أبو مازن) ليقدم المزيد من التنازلات، التي تريد إسرائيل انتزاعها – طوعاً أو كرهاً - على طاولة المفاوضات.

كنَّا نبشّر بأن الانقسام طارئ ولن يطول مقامه بيننا، وذلك لأن عناصر الحياة والحيوية الحركية في شعبنا العظيم أقوى من كل الحسابات الخاطئة لدى البعض، وأن فلسطين؛ الأرض المباركة بترابها وأهلها وتاريخها ومقدساتها وبأثر الصالحين في كل جنباتها، ستقطع دابر الفتنة وإن طالت سنواتها.. كنَّا - ومنذ أن وقعت الأحداث الدامية في يونيه 2007م-  نقول وبصوت يقرع الآذان: إن هذا الشرخ الذي أصاب بنياننا المرصوص، وانشطر معه – للأسف - نسيجنا الاجتماعي إلى جدلية إقصائية، مفادها: "إما أنا أو أنت" بين فتح و حماس ، إنما هو حدث عارض ولن يطول، وأن تحقيق المصالحة وإنهاء الانقسام إنما هو في اعتبارات حركة حماس "فريضة شرعية وضرورة وطنية وحتمية قدرية"، حيث أخذت حركة حماس قرارها منذ الشهر الأول لحدوث الانقسام، بأن خيارها الاستراتيجي هو التحرك باتجاه المصالحة، وأن الانقسام – لو استمر – فإن معناه هو التسليم لدولة الاحتلال بالإجهاز على مشروعنا الوطني، والقضاء على الحلم الفلسطيني في التحرير والعودة والاستقلال.

لقد امتشقتُ حسام القلم، وأخذتُ أدبج بكتاباتي الصحفية بساط المواقع الإعلامية بمقالات تبشر حيناً بقرب المصالحة، وحيناً بفجيعة وأخطار غيابها، وكان البعض يتهمني بأنني سياسي حالم، وغير واقعي، وأنني متعجل في تقديراتي للأمور، وأن كل ما وقع كان مخططاً له إسرائيلياً، ولذلك فإن عودة الوضع لما كان عليه يأتي في سياق التمني والتحلي وطلب المستحيل.

في الحقيقة، كانت بعض المواقف والتصريحات التي تصدر من قطبي الأزمة؛ فتح وحماس، تصدمني، وتجعلني - أحياناً - قاسياً في انتقاداتي وأحكامي على الطرفين، وكان هناك من بين إخواني من يأتي معاتباً ويراجعني في بعض المقالات.. كان  جوابي لكل من اعترض على روح ما نكتب، واستوقفني للسؤال حول مواقفي: إن الوطن أكبر منا جميعاً، وأن المصلحة الوطنية العليا وأمانة المسئولية التي نحملها، توجب علينا أن نقول كلمة الحق، وأن على الآخرين أن يتجرعوا مرارتها؛ لأن الجرح في الكفين دامٍ، وأرض الوطن تنتقص من أطرافها، والزمن – مع تكريس واقع الانقسام – ليس في صالح قضيتنا، ولن يحقق لشعبنا طموحاته وأحلامه في رؤية فلسطين دولة حرة مستقلة .
 
ومن باب الأمانة والصدق، أن بعض تلك المقالات التي كتبت قد لاقت استحساناً كبيراً في الشارع الفلسطيني؛ لأن الناس - ربما - وجدت شخصاً يرفع طربوش الوطن عالياً فوق عباءة التنظيم، ولا يكتفي بقول: "ولا الضالين.. آمين"، بل يتحمل في سبيل "كلمة الحق" الكثير من نصال المشككين بولائه للتنظيم، وأنه دائم التغريد خارج سربه الأمين، ولم يحاول إلا عدد قليل ممن أعتز بصداقتهم وجرأتهم الدفاع عما نكتب، وعن تاريخ السنوات الخمسين التي عشناها مناضلين في كنف هذه الحركة الإسلامية المباركة، والتي أراد لها مؤسسوها أن تكون مسيرتها رحمة للعالمين؛ بأهدافها ونبل تضحيات أبنائها وشهدائها وأسراها أجمعين.

لا شك أن هناك من كان يطرح الأسئلة الصعبة، وهو ينظر إلى داخل الصف، ويرى ببصيرته أن الوطن يضيع، وأن المقدسات تُهوَّد وتُهان، فيصرخ قائلاً: "ما لي لا أرى الهدهد".؟، ويتساءل باستنكار "يا قوم أليس منكم رجل رشيد".؟!

كان هناك من يشد من أزري، ويرفع من قدر ما نكتب، ويشجعني على المضي قُدماً، ويقول: اثبت فإن "الإنسان موقف"، وأن الذين يهاجمونك اليوم سيعتذرون لك غداً، لأن أنوار الحقيقة قد تغيب، وتختفي - لحينٍ من الزمن - بين أقدام الحالمين، وأوهام المنظِّرين، وحسابات الطامعين، وحناجر المطبِّلين، وعجز القادرين، وأنت اليوم بقلمك كالهدهد وحامل القنديل.

لقد كنتُ أصلي – أحياناً - ركعتين قبل أن أرسل بعض المقالات للنشر، حيث كنت أتحسس من ردة الفعل لدى الكثيرين من إخواني، الذين لم يتعودوا – بسبب أجواء السرية ومناخاتها القاسية - أن يكتب أحد أبناء الحركة ناقداً خط سياساتها أو متهماً بعض مواقفها في مساحات الإعلام الخارجي، وعلى فضاء شبكات التواصل الاجتماعي.

كان جُرح الوطن يعتمل في صدري، وأبكي في لحظات على أحوال الناس، وأتوجع - بألمٍ - لمعاناتهم وسوء أحوال معيشتهم، وأخاطب نفسي متسائلاً: هل نحن خير أمة أخرجت للناس.؟ وهل هذا هو ما جئنا نبشر به أبناء شعبنا، وندعوهم إليه.؟! وهل السياسة أن نسوس الناس بالجوع، وأن نتهددهم بسوط الخوف والحرمان.؟!

كنت دائماً أقول لإخواني: إن الرائد لا يكذب أهله، وأن من دخل العقد السادس من عمره مثلي، هو على مسافة شهقة من لقاء رب العالمين.. لذا؛ فإن عليه أن ينصح ولا يجامل، وأن يعمل بفقه "وأنذر عشيرتك الأقربين"، لأن خيانة الأمانة ليست من شيم الصالحين وأصحاب الدرب القويم.

أتمنى، ونحن نتفيأ ظلال العودة إلى وحدة الصف والتئام شمل الوطن، أن يتطلع كل حمساوي في وجه أخيه الفتحاوي والعكس، ويقول له: سامحني يا أخي، وليغفر الله لنا جميعاً، لقد نزغ الشيطان بيننا ففرَّق شملنا، وأضلنا - في لحظة طيشٍ وتوتر - عن السبيل.. اليوم، سنعمل معاً ونكون يداً على القوم الظالمين، سنقف على خط المواجهة مع الاحتلال خلف بندقية مقاومة واحدة، من أجل حرية شعبنا وكرامته، وسنناضل - حرباً أو سلماً - لاستعادة حقنا السليب من أيدي الغزاة الغاصبين.

ما طويناه بالأمس من صفحات لسبع سنوات عجاف في مسيرتنا النضالية، والتي تحتضن سطورها – أيضاً – تعبيرات وإنجازات لمشاهد البطولة والمجد، إلا أن هذه السنوات من مدوناتنا السلوكية كفلسطينيين، ستبقى عناوينها في الذاكرة – للأسف - هي: الجوع والقتل والحصار، برغم كل ما حققناه بصمود شعبنا ودماء شهدائنا من ملاحم عزٍّ تحمل نكهة الانتصار ومذاقه العظيم.

إنني أتوجه بالتهنئة القلبية الحارة، وبمسك هذه الأرض المباركة طهراً وكرامة، لإخوتي الأحبة في فتح وحماس، داعياً المولى - عز وجل - أن يأخذ بأيديهم، وأن يسدد على طريق الحق خطاهم، وأن يكتب لتوافقهم الوطني كل ما يتطلعون إليه من الكسب والنجاح والتمكين.

إننا في هذه اللحظة التاريخية الحاسمة من عمر شعبنا وقضيتنا التي تغلبنا فيها على حسابات "الأنا التنظيمية"، نكون قد أودعنا أمانة المسئولية وعطاء التنظيم للمجتمع الذي نحن جزء منه، لتكون أوجاع الأمس وعذاباته هي آخر بطاقات التعازي والأحزان"، ونهاية الشوط لمسارنا اللاحب على "درب الآلام"، لأننا سنوطن – منذ الآن - في ذهنية الجميع بأن مستقبلنا السياسي وأملنا في التحرير لوطننا الغالي فلسطين، مرهون بمدى قدرتنا وإمكانية نجاحنا في بناء نظام حكم قائم على الشراكة السياسية بين جميع فصائل العمل الوطني والإسلامي، وعلى التوافق الوطني الذي يحترم مساحات التقاطع القائمة بين برامجنا السياسية وفضاءات الرؤية الفكرية التي تجمعنا، وأيضاً على تمتين العلاقة الاستراتيجية مع عمقنا العربي والإسلامي، وعلى ضرورة الانفتاح وتوطيد علاقات الصداقة مع المجتمع الدولي، وأن ندير معاركنا مع المحتل الغاصب بقوة واقتدار؛ وفي سياقات تحكمها شكيمة الموقف وبلاغة الحكماء، التي تمنحنا المكانة الأخلاقية والاحترام بين الأمم، وأن ندافع عن مقدساتنا بكل ما أوتينا من قوة ومن رباط الخيل، وأن نتمسك بكل ثوابتنا ونحمي حقوقنا، وأن نعزز من ثقة شعبنا وأمتنا بنا، وأننا سنكون عند حسن ظنهم بنا؛ ذخر لهم، وحربتهم المسنونة في ظهور أعدائهم.
إننا لهذه الأمة – إن شاء الله - سنبقى الطائفة المنصورة، التي ترابط في بيت المقدس وأكنافه؛ من رفح جنوباً إلى رأس الناقورة شمالاً، ونحن أبناء شعب فلسطين سنبقى – بحول الله وقوته – على الحق ظاهرين، ولعدو أمتنا قاهرين.

إن ما وصلنا إليه من تحقيق المصالحة وإنهاء الانقسام هو في الحقيقة جهد الكثيرين من أبناء هذا البلد، الذين عملوا طوال سنوات الانقسام بالكلمة الطيبة والفعاليات المتواصلة للخروج من محنتنا الوطنية وأزمتنا على مستوى الشعب والقضية، وأخص من بين هؤلاء وأولئك على المستوى الشخصي والمؤسساتي الأخوة التالية أسمائهم: د. موسى أبو مرزوق، د. زياد أبو عمر، أ. عزام الأحمد، د. مصطفى البرغوثي (المبادرة الفلسطينية)، الرفيق بسام الصالحي (حزب الشعب)، د. ناصر الدين الشاعر، د. جميل سلامة (هيئة الوفاق الفلسطيني)، د. عبد العزيز الشقاقي (تجمع فلسطين المستقل)، الرفيق صالح أبو ناصر(الجبهة الديمقراطية)، م. جمال الخضري (رئيس اللجنة الشعبية لمواجهة الحصار في قطاع غزة)، أ. خالد البطش، د. أسامة الفرا (محافظ مدينة خانيونس)، د. معين رباني، أ. هاني المصري (مركز مسارات)، د. حسام عدوان (جمعية أساتذة الجامعات)، أ. سليم الهندي (تحالف السلام الفلسطيني)، السيد سيف الدين أبو رمضان (رئيس جمعية مخاتير فلسطين)، الأخ محمد أبو سعدة (فريق بيان الشبابي – بيت الحكمة)، د. غازي حمد، أ. حسن عبدو، أ. فهمي كنعان (أسير مبعد)، أ. أكرم عطا الله، أ. إبراهيم أبو النجا، د. محمد عوض، أ. مصطفى إبراهيم، أ. راجي الصوراني، د. كمال الشرافي، أ. منيب المصري، د. فخر أبو عواد، د. نبيل شعت، د. نعيم الغلبان (جمعية الوداد)، أ. روحي فتوح، أ. حسن يوسف، أ. عباس زكي، د. سمير أبو مدلله، د. حسين أبو شنب ..الخ

هذه الأسماء لأهم الشخصيات التي لمسنا لها تحركات واسعة لرأب الصدع منذ بداية الانقسام في يونيه 2007م، وسخَّرت أقلامها وعلاقاتها ومؤسساتها من أجل العمل لتحقيق المصالحة واستعادة الوطن لوحدته. لكلِّ هؤلاء وغيرهم، ممن تحركوا بظهر الغيب لإنقاذ مسيرتنا الوطنية، نتوجه - اليوم – بالتحية، وندعو الله أن يكون ما تحقق داخل ساحتنا الوطنية هو نعمة في ميزان حسناتهم جميعاً؛ نعمة ترفع العمر وتباركه وتزكيه.. اللهم آمين
 


جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد