أقدم مصور "فوتوغراف" بغزة..

بالصور: لقطاتٌ من الزمن الجميل يخبئها الهنداوي في حقيبة الذاكرة

حامد الهنداوي

يحمل العم حامد الهنداوي حقيبته الجلدية ذات اللون البني الغامق، ويمشي بخطواتٍ ثقيلةٍ نحو سريره، يتفقّد محتوياتها من كاميرات ومعدات تصويرٍ قديمة. تلك الحقيبة تحمل في أحشائها ذكريات عشرات السنين من العمل في مهنة التصوير داخل قطاع غزة .

الرجل الذي تجاوز الثمانين من عمره اليوم، كان على مدار فترة شبابه، وحتى وقتٍ قريب، يحمل حقيبته تلك تمام السابعة صباحًا، قاصدًا مناطق مختلفة داخل قطاع غزة، يمشي يوميًا قرابة 40 كيلومترًا مربعًا، يلتقط بآلات تصويره البدائية صورًا متنوعة، يبرز من خلالها جمال المدينة، ويحكي قصص السكان المفرحة.

مشيًا على الأقدام، يصل إلى شاطئ بحر المدينة التي يسكنها "خان يونس"، يبث إليه تفاصيل يومه حلوها ومرها، ويبتسم، ثم يغادر إلى حيث غرفته الصغيرة التي خصصها لتحميض أفلام التصوير، يستخرج الصور المميزة، ثمّ ينقلها لمعرضٍ صغير صممه داخل بيته أيضًا.

هنداوي1.jpg

كان العم الهنداوي خلال فترة شبابه، يوثق عبر كاميرته مظاهر الحياة اليومية للسكان في غزة، حتّى صار يُعرف بينهم أنّه من أقدم المصورين في القطاع. بدأ شغفه تجاه الرسم والفن التشكيلي، ثم عبَرَ نحو التصوير عندما كان يراقب بعض الشباب الذين يمتلكون آلات تصوير في منطقته، ويحاول التعلّم منهم، حدث ذلك في بداية العقد الخامس من القرن الماضي.

يعقب: "أول صورة التقطها، كانت تعبر عن حياة النساء في فلسطين، حيث كُن يحملن المياه بجرار الفخار فوق رؤوسهن، أول صورة كانت في الحقيقة لزوجتي وأخواتها الثلاث، التقطتها عام 1954م".

عام 1958م انتقل الرجل إلى السعودية، في ذلك الوقت، كان قد حمل في جعبته خبرةً في مجال التصوير، تؤهله للعمل في الاستوديوهات الخاصّة الشعبية، وهذا ما كان. صارت مدينة الطائف أولى محطاته في العمل الفوتوغرافي، وبعد ذلك انتقل لمدينة الرياض، وعمل في استديو هناك، حتّى عاد لمسقط رأسه غزة، عام 1961م.

هنداوي4.jpg

يقول لـ "سوا": "بعد حرب عام ١٩٦٧م أبعدني الاحتلال الاسرائيلي إلى مصر لمدة عام، وذهبتُ إلى العاصمة الأردنية عمان، وعملت هناك لمدة خمس سنوات، مصورًا أيضًا، وهذا ما زاد خبرتي، وجعلني أكثر قدرة على فهم طبيعة وطلبات ورغبات الزبائن من أبناء الثقافات المختلفة".

كانت أول صورةٍ التقطها العم الهنداوي عام 1945م، لمجموعةٍ من النساء اللاتي كنّ يحملن أوعية المياه الفخارية فوق رؤوسهن، ولاقت حينذاك إعجاب كلّ من شاهدها، وبعضهم عدّها بمثابة توثيق وحفظ للحياة الفلسطينية قبل النكبة .

يضيف: "تنوعت أعمالي بين تصوير الحياة اليومية وبين العمل في الأستوديوهات لالتقاط الصور الشخصية، كما برع في تصوير الأفراح، حيث صور الكثير من العرسان، وعاش معهم أجواءً لطيفة جداً خلال جولات العمل"، ملفتًا إلى أنه كان يختار لهم في كل مرةٍ حركاتٍ مميزة كي تظهر الصورة خاصة، مختلفة وجذابة.

يستطرد: "كنت أصور الأفراح وأصور العروس بسبع بدل، أولها البيضة وآخرها السمرة، ومرة صاحبي محامي، كان خاطب جديد، وكان جدّي جدًا في الصورة مع خطيبته، يومها صرخت عليه خطيبته قدامي وقالتله: أي اعملك حركة يا رجال"، يضيف: "التهب وجهه خجلًا كونه يعرفني، ثم صرنا نضحك لتدارك الموقف".

العم الهنداوي كان يلتقط أيضًا صورًا لانتهكات الاحتلال الإسرائيلي في غزة، لا سيما في فترة الانتفاضة الأولى، وفي إحدى المرات تعرض لملاحقةٍ من قبل الجنود الإسرائيليين، حينما كان يصور شابًا فلسطينيًا حاول رفع العلم الفلسطيني، خلال المواجهات مع الجيش.

يعلق: "في الماضي، كان كلّ شيء جميلًا، والصور كانت مليئة بتفاصيل الحياة، لأنّ الاستقرار كان واضحًا عند السكان، والجميع كان هنيئاً بحياته"، مشيرًا إلى أن صوره لاقت انتشاراً بين الناس، كما أنّ عدداً لا بأس به منهم، ما زال يحتفظ بها حتّى اليوم.

ويصف الهنداوي، الأدوات التي كان يستعملها في التصوير بالسلاح الذي لا يمكنه التفريط به أبداً، هذا السبب جعله يحتفظ بها حتّى اليوم، منوهاً إلى أنّه استخدم في عمله الكاميرا وكشافات الإضاءة، وكان له غرفة تحميضٍ خاصّة.

وعن آلية التصوير قديمًا، يشير إلى أنّ الفيلم الواحد كان يمكن أن يُلتقط عليه نحو 36 صورة، متابعًا "امتلكت خلال حياتي أربع كاميرات، في أزمنةٍ مختلفة، كان آخرها في فترة التسعينيات من القرن الماضي، وكانت آنذاك من النوع الحديث، التي تطبع الصور فور التقاطها".

وفيما يتعلق بالأسعار والمبالغ التي كان يتقاضاها مقابل التقاط الصورة في الأستوديوهات، يحكي أنّ الصورة في فترة الحكم المصري كانت بـ 20 أو 30 قرشًا مصريًا لكل 6 صور، وفيما بعد صارت الصورة الواحدة في وقت الحكم الإسرائيلي بنحو 4 شواكل (دولار واحد تقريبًا).

تمكن الهنداوي من خلال مهنة التصوير، من تعليم أبنائه في المدارس والجامعات المختلفة. البعض منهم حصل على درجة الماجستير.

في كل مرةٍ ي فتح فيها الهنداوي حقيبته، يعود إلى ذلك الزمان، تُضحكه بعض التفاصيل، ولا تغادر ذاكرته صور بعض الأشخاص كلما مر بمواقف شبيهة. يقول "إن هذه الحقيبة، هي إرث لا يمكن أن أتنازل عنه، فيها تاريخي وتفاصيل حكايتي مع غزة، التي سيحفظها أحفادي، ويتناقلونها جيلًا بعد جيل".

هنداوي3.jpg
اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد