قبل كل شيء، لا بدّ من الاعتراف من دون مكابرة أنّ الحرب التي اندلعت في اليمن وعلى اليمن تساهم في تهميش القضيّة الفلسطينيّة. فالمسألة بدأت بالمتغيّرات والثّورات وانتهت بالمؤامرات، وحوّلت القضيّة الفلسطينيّة من قضيّة العرب المركزيّة إلى قضيّة من القضايا لا تحظى بالأولويّة، وما حدث في قمة «شرم الشيخ» يؤكد ذلك بالرغم من المكابرة والعناد من خلال القول إننا «حصلنا على كل شيء طلبناه في القمة»، فما حصلنا عليه عبارات عاطفيّة تتردد في كل مؤتمرات القمة، وقرارات يجري التأكيد عليها كل مرة ولا تنفذ أو لا تنفذ في معظمها.
إنّ الصراع الدائر عندنا ليس صراعًا فلسطينيًا - إسرائيليًا وإنّما صراعٌ عربيٌ - صهيونيٌ، تتحالف فيه إسرائيل بشكل عضوي مع دول استعماريّة لتنفيذ مشروع يستهدف إبقاء الهيمنة والسيطرة الخارجيّة عى المنطقة العربيّة حتى تبقى أسيرة التخلف والفقر والتبعيّة والتجزئة، فوجود مشروع استعماري تساهم إسرائيل في تنفيذه لا يعفي الحكام العرب من مسؤولياتهم عما جرى ويجري، لأنهم أقاموا دولًا استبداديّة فاسدة تابعة، ويتآمرون على كل القادة والمبادرات الشعبيّة التي أرادت النهوض بالأمة العربيّة، ما جعل المنطقة وشعوبها لقمةً سائغةً لكل أنواع التدخلات والمؤامرات.
كما يتطلب الوضع الفلسطيني «عاصفة حزم» عربية من أجل إنهاء الاحتلال الإسرائيلي، وتمكين الشعب الفلسطيني من حقه في العودة وتقرير المصير الذي يشمل حقه في إقامة دولة فلسطينيّة على حدود العام 1967، والمساواة داخل أراضي 48 كخطوة على طريق الحل التاريخي الجذري للقضيّة الفلسطينيّة من خلال إقامة دولة ديمقراطيّة بعد هزيمة وتفكيك المشروع الاستعماري ونظام التمييز العنصري.
تأسيسًا على ما سبق، فإن ما يجري في فلسطين في جوهره ليس صراعًا على السلطة ولا على الشرعيّة، رغم أنّه يظهر كذلك أحيانًا بسبب تصرفات طرفي الانقسام، في حين أنّه صراعٌ ضد مشروعٍ استعماريٍّ استيطانيٍّ عنصريٍّ إحلاليٍّ احتلاليٍّ. لذا لا يمكن أن يحسم الصراع الداخلي من خلال هزيمة طرف للطرف الآخر، سواء عسكريًا وبقواه الذاتيّة، أو بالاعتماد على قوى أخرى خارجيّة عربيّة أو إقليميّة أو إسرائيليّة، وبالتالي لا محل على الإطلاق للدعوة إلى تعميم «عاصفة الحزم» على فلسطين، بحجة أنّ « حماس » انقلبت على الشرعيّة ولا مصالحة مع الانقلابيين، وأنّ المطلوب السعي لدحرهم بالقوة واستعادة الشرعيّة.
هنا، لا بد من توضيح أنّ ما قامت به «حماس» في قطاع غزة على بشاعته ليس انقلابًا، أو هو انقلاب من نوع خاص قامت به قوة هي جزء من الشرعيّة فازت بالانتخابات ولم تمكّن من الحكم من إسرائيل، وغيرها من أطراف محليّة وعربيّة ودوليّة، لأنها لم توافق على شروط اللجنة الرباعيّة الدوليّة، ولو كان ما حصل انقلابا عاديا لما جرى التعامل معه بالحوار واتفاقات المصالحة وتشكيل حكومه وفاق وطني.
إنّ المنطقة العربيّة بعد هزيمة حزيران العام 1967 وسقوط المشاريع الوطنيّة والقوميّة واليساريّة أصبحت بلا مشروع قادر على توحيدها وقيادتها، وأصبحت أرضًا مستباحة من كل الأطراف الإقليميّة والدوليّة، التي تعاملت معها على أساس أنّ هناك فراغًا ورجلًا مريضًا يذكرنا بالإمبراطوريّة العثمانيّة في آخر عهدها، حين جرى تقاسم تركتها من قبل الدول الاستعماريّة.
الفرق هذه المرة أنّ التقاسم لا يجري أساسًا، ولا يقتصر على الدول الاستعماريّة، وإنما تساهم فيه بنشاط الدول الإقليميّة (إيران، تركيا، إسرائيل) التي تحاول الاستفادة من تجنب الدول الاستعماريّة التدخل العسكري البري المباشر بعد تراجع دورها، وخاصة الدور الأميركي، وفي ضوء التكلفة الباهظة للتدخل في أفغانستان والعراق، الأمر الذي أعطى الدول الإقليميّة دورًا أكبر، حيث تتسابق على ملء الفراغ والحصول على أكبر حصة في ظل الوضع الذي تشهده المنطقة من متغيرات عاصفة تمزّقها على خلفيات متعددة، منها ما يتعلق باحتياجات التغيير، ومنها ما تتعرض له من مؤامرات مع تنامي التشظي والطائفيّة وكل عوامل التقسيم.
بالرغم من الأبعاد الطائفيّة للصراع واستخدام الدين والمذهب لخدمة أغراض سياسيّة، إلا أنّه في جوهره صراع من أجل رسم خارطة جديدة للمنطقة، لا يمكن أن ينتهي لصالح شعوبها إذا لم تتعامل معه كصراع ضد الاستعمار ومشاريع التجزئة والتبعيّة، فالصراع ليس دينيًا بين المسلمين والمسيحيين واليهود ولا مذهبيًا بين السنة والشيعة، وإنما صراع من أجل التحرر والاستقلال والتنميّة والديمقراطيّة والعدالة الاجتماعيّة. والدليل على ما سبق أنّ من يتحارب في اليمن يتحالف في سوريا والعراق.
لا بد من التفريق بين الدول الإقليميّة، وخصوصًا بين إسرائيل التي تعتبر كيانًا غريبًا مزروعًا لخدمة مشروع استعماري استيطاني يشمل المنطقة بأسرها، ونحيل الذي لا يصدق ذلك إلى إحدى التوصيات التي خرج بها «مؤتمر هرتسيليا» في آذار 2013 التي دعت إلى ضرورة تكريس الصراع السني الشيعي؛ وبين تركيا وإيران الدولتين الجارتين للمنطقة العربيّة التي من المفترض إقامة علاقات تعاون وحسن جوار معهما بعيدًا عن الأطماع التي تكبر في ضوء تحوّل المنطقة وشعوبها إلى لقمة سائغة يسهل التهامها بسبب غياب مشروع عربي وقيادة عربيّة قادرة على الدفاع عن المصالح والأمن العربي.
ومن الصحيح أيضًا ضرورة التفريق بين تركيا عضو حلف «الناتو» وإيران الدولة التي يختلط فيها التوجه المعادي للاستعمار مع سعي لإعادة الإمبراطوريّة الفارسيّة الشيعيّة، التي أنهكها الحصار وتميل أكثر للحفاظ على مصالح الدولة بدلًا من دعم الثورة والقضايا المعادية للاستعمار، فكما نرى أن مناهضة الاستعمار ودعم القضيّة الفلسطينيّة لم يمنع طهران من تورطها في مواقف أو اتفاقات لا تنتهي مع الولايات المتحدة، كما ظهر في أفغانستان والعراق، وكما بدأ يتحقق في سورية، وفي الاتفاق الذي تم التوصل إليه مبدئيًا حول الملف النووي، الذي تتجاوز أهميته هذا الملف، ويمكن أن تصل إلى تجميد البرنامج النووي مقابل رفع الحصار والاعتراف بإيران كدولة إقليميّة عظمى بعد امتداد نفوذها إلى دول عدة، كما تفاخر عدد من قيادتها في الآونة الأخيرة.
اذا انتقلنا إلى ما يجري في اليمن، علينا أن نقرّ بوجود ثورة على حكم علي عبد الله صالح انتهت بعزله مقابل الإبقاء على نظامه، الأمر الذي أنتج القلاقل والصراعات مرة أخرى، خصوصًا أنّ الاتفاق الذي أخرج صالح لم يلب مصالح مختلف مكونات الشعب اليمني، وخصوصًا الحوثيين، ما أدى إلى انقلاب الموقف وتغيير التحالفات، حيث أصبح صالح الفاسد المستبد على تحالف مع الحوثيين ضد منصور الرئيس الشرعي، مع أنّ هذه الشرعيّة يجب التوقف عندها، لأنه رئيس انتخب بالتوافق لمدة سنتين ومددت ولايته حتى شهر شباط المنصرم.
لا يحق للحوثيين الاستيلاء على اليمن بدعم إيراني، ولا يحق للتحالف العربي المدعوم من الباكستان وتركيا وأميركا وأوروبا أن يستبعد الحوثيين الذين عانوا الأمرّين طوال العهود الماضية، فلا مفر من حل سياسي ديمقراطي يشارك فيه كل مكونات الشعب اليمني دون إقصاء أحد ويبقي اليمن موحّدًا.
في ضوء ما سبق، ومع إدراك صعوبة البقاء على الحياد في ظل الاستقطاب الحاد وتعامل الأطراف المتصارعة على قاعدة إما معي أو ضدي، إلا أنّ خصوصيّة القضيّة الفلسطينيّة النابعة من كونها قضيّة عادلة قادرة على الحصول على دعم كل الأطراف من دون الانحياز لطرف ضد الطرف الآخر، ومع إدراك حالة الاستقطاب والانقسام والتنافس بين طرفي النزاع الفلسطيني، وخشية كل منهما أن تصب «حرب اليمن» في صالح منافسه، لدرجة لاحظنا أنّ «فتح» و»حماس» التقتا جوهريًا من الموقف مما يجري في اليمن، حيث اختارا دعم الشرعيّة، إلّا أنّ المصلحة الوطنيّة تقتضي عدم خسارة التحالف العربي ولا إيران ولا تركيا، ولعب دور لإطفاء هذه الحرب قبل أن تطول كثيرًا، لأن حسمها متعذر جدًا، وقبل أن يتسع لهيبها ويحرق ما تبقى من أخضر ويابس لم تأكله النيران حتى الآن.
وأخيرًا، لا يحق للسيد حسن نصر الله أن يخاطب الرئيس الفلسطيني، المعترف به من مختلف الفصائل داخل المنظمة وخارجها، بهذه الطريقة بقوله له «إذًا، روح اقعد بالبيت»، مع حقّه طبعًا في معارضة موقفه والاختلاف معه.
hanimasri267@hotmaoil.com

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد