بفوز المشير السيسي تدخل مصر حقبة جديدة بعد سلسلة التغيرات الدراماتيكية التي شهدتها البلاد بعد ثورة 25 يناير قبل أكثر من ثلاث سنوات، شهدت صعود وهبوط الإخوان في نفس الوقت وفي زمن قياسي لم يتوقعه أحد خاصة في مصر.

ويمكن للكثيرين أن يسوقوا ألف اعتراض على فوز المشير الطموح لكن من المؤكد أن ثمة حقيقة واحدة تقول إن فوزه كان الشيء المؤكد الوحيد في تطور الأحداث في بلاد النيل. كما أن مثل هذا الفوز كان سيتحقق حتى لو قرر الإخوان المنافسة.

وفيما تبدو عمليات التحول الديمقراطي في المنطقة العربية في بداية تكوينها فإن مجرد وجود الانتخابات والتنافس عليها يدفع عملية التحول تلك إلى الأمام. ورغم النسبة غير المرتفعة التي شاركت في التصويت لأسباب عديدة يمكن لمن يقرأ الصحافة المصرية أن يتعرف عليها، إلا أن حصر النقاش في نسبة المصوتين وخلق مبررات لهذا والدفاع عن الخمسة وعشرين مليونا التي خرجت للتصويت وحصل على أكثر من 93 بالمائة منها المشير، يعتبر انجراراً وراء المشككين في قوة النتائج. فحتى لو خرج اقل من ذلك فإن العملية الديمقراطية هي من يمنح الشرعية لنفسها ولنتائجها ليس العكس. وإن النسبة المرتفعة قد لا تكون علامة على استقرار النظام السياسي ديمقراطياً، إذ أن التسييس المفرط للمنافسة الانتخابية يعود بضرر على العملية ذاتها، ويظل جوهر العملية هو حق المواطنين في الاختيار.

ثمة مهام كبيرة أمام الرئيس المصري الجديد وفي أغلبها داخلي يتعلق بالوضع المصري الداخلي وبأولويات السياسة المصرية الداخلية. ومن المؤكد أن فريقه الرئاسي الجديد يعرف كل هذه الأولويات وحضّر حلولاً أو مقترحات حلول لها، وربما ستظل هذه المهام هي الشغل الشاغل للمشير الرئيس الذي أتي مصحوباً بكثير من الآمال والتوقعات خاصة من الفئة المسحوقة التي يعتقد أنها من خرجت للتصويت له. وهي مهام متعددة الجوانب ومعقدة المدخلات والمخرجات. عنونت صحيفة "الجمهورية" المصرية ملفاً كبيراً أعدته في عددها يوم السبت الماضي أول من أمس بـ"نبتدي منين الرياسة" على وزن أغنية العندليب الأسمر "نبتدي منين الحكاية" في إشارة إلى هذا الكم الهائل من المهام التي تتنوع حسب وجهة نظر طالبها، وهو ما يعقدها ويجعل الحاجة لوجود حلول ابداعية لها كبيرة. المؤكد أن المشير الذي خرج من قلب المؤسسة العسكرية التي نجحت في الحفاظ على البلاد في وقت الأزمات في السنوات الثلاثة الماضية، والذي ترشح للانتخابات بعد دعاوي ومطالب جماهيرية يعرف كل هذا، ويعرف صعوبة تحقيق انجازات في وقت قصير خاصة حين يكون المواطنين الذي عانوا خلال السنوات الماضية من الظلم والاضطهاد كما من الفقر والبطالة بحاجة لجرعات سريعة من الحلول السحرية. بيد أن تقديم بعض الحلول لا يبدو صعباً ولا مستحيلاً إذا ما أجيد اختيار فريق العمل الذي سيدير حياة الناس.

المؤكد أن ما يهمنا في هذه المهام هو الشيء الكثير، يبرز منه أولاً استقرار مصر وثانياً السياسة الخارجية المصرية. لماذا استقرار مصر؟ لأن استقرار مصر مكون أساس من مكونات الأمن القومي العربي. فمصر الدولة الأكبر والجيش الأكبر والأقوى وهي قلب العرب وقوتهم. إلى جانب ذلك وربما ليس أقل أهمية منه حقيقة أن استقرار مصر يعني تحقيقاً للمصالح الفلسطينية. فالاضطرابات في سيناء تعود بغير نفع على الأمن القومي الفلسطيني خاصة في قطاع غزة . لقد عاني القطاع خلال السنتين الماضيتين محاولة ربط مصيره بحالة الفلتان والقتل الأعمى التي تقودها بعض الجماعات المتطرفة. إن مصر المستقرة وسيناء الهادئة تعني أن قطاع غزة ينعم بالمثل وحين تكون سيناء مستقرة فإن غزة تحظي بعلاقات أكثر دفئاً مع شقيقة العرب الكبرى.

وهذا بدوره يقودناً إلى جزء هام من هذا النقاش يتعلق بعلاقات فلسطين مع مصر التي تعرضت لبعض التآكل بسبب سوء تقدير البعض ونقص الخبرة. فالفلسطيني الذي حمل البندقية مدافعاً عن أرضه وشعبه رفع أيضاً شعاراً حكيماً يقول بعدم التدخل في شؤون الدول العربية، دون أن يعني هذا عدم الإهتمام بالقضايا العربية، بل عدم التدخل كطرف في الأزمات الداخلية العربية. لقد عاني القطاع من سوء التقدير هذا وصار الفلسطيني يحسب على طرف في الصراع المصري فيما غالبية الفلسطينيين مع مصر ومصر فقط. بالطبع بعض الإعلام غير المهني ساهم في ذلك بيد أن حقيقة الأمر واضحة وضوح الشمس. وعليه فإن المشير السيسي بحاجة لأن يعيد صياغة سياسة تجاه غزة تنطلق من جوهر وقلب مواقف مصر العروبية التي عكسها هو شخصياً في خطاباته. سيكون تطوير مثل هذه السياسة سهلاً وممكناً خاصة بعد تحقيق المصالحة الفلسطينية التي تعيد اللحمة للمؤسسة الرسمية الفلسطينية وتنهي سنوات الإنقسام السوداء كما تطوي تفرد حزب واحد في التحكم عنوة بقطاع غزة. لقد شكلت دوماً العلاقة الروحية والمرجعية بين حماس وإخوان مصر قلقاً للسياسة المصرية بعد سقوط نظام الإخوان، وأظن أن المصالحة تخفف من الحرج الذي ستقع فيه إدارة المشير لو استمرت حماس بمفردها في تمثيل القطاع.

النقطة الأخيرة في هذا النقاش تتعلق بالسابقتين. لقد عانت مصر من تراجع واضح في دورها ومكانتها في السياسة الدولية والإقليمية خاصة في العقود الثلاثة الماضية، فالدولة التي كانت صاحبة القول الفصل في السياسة العربية والشرق أوسطية أيام الزعيم الراحل جمال عبد الناصر باتت قطر أهم منها بكثير. ويظن الكثيرون أن المشير الرئيس يدرك ذلك خاصة أنه يعبر بشكل دائم عن إعجابه بعبد الناصر وبمواقفه. إن مصر تستحق أفضل وتستحق ان تعود إلى رياديتها العربية والقومية، فهي ليست الدولة الأكبر عربياً ولا الجيش الأقوي عربياً، إنها الجزء الأهم في الحالة العربي بكل تجلياتها، ولعل المرحلة الجديدة تعيدها إلى سابق عهدها.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد