كيف حاصر الإسلام ظاهرة الانتحار؟

كيف حاصر الإسلام ظاهرة الانتحار

الانتحار ضيق بالدنيا، وهروب من الحياة، وضعف من مواجهة أزمة عاتية، تختلف تجليات هذه الأزمة التي تدفع صاحبها إلى الانتحار، فقد تكون فضيحة مدوية، أو فقراً مدقعاً، أو ظلماً ملجئاً، أو شعوراً بالعجز أمام الظلم والقهر.

في كل هذه الحالات، يهرب المنتحر من واقع سيئ لا يقدر على التعايش معه، فيفضل الانسحاب والهروب. فالانتحار إذن فكرة رأى صاحبها فيها أنها أقل ضرراً من استكمال الحياة.

وقد عالج الإسلام هذه الفكرة من جذورها، مناقشاً إياها من نفس المنطلق الذي انطلقت منه نفسية المنتحر (الموازنة بين الأضرار).

وبيان ذلك أن الموت ليس فناء، ولكنه بداية للحياة الآخرة، فلو أن الإنسان إذ يموت يفنى لكان قتل النفس حلاً مقبولاً في حق من تضيق بهم الحياة، فساعتها يكون الانتحار انسحاباً من المواجهة، والشخص الضعيف غالباً ما يهرب من المواجهة، لكن الانسحاب هنا لا يؤدي إلى الفناء.

e844efdcec67c46f2a51770ca3c8d99e_XL.jpg


 

إن الانتحار -وفق التصور الإسلامي- لا يناسب الشخص الضعيف الذي لا يتحمل معايشة الآلام والأزمات؛ لأن الانتحار يسبب أزمة أشد من الأزمة التي فرَّ منها المنتحر، فلئن كان المنتحر فرَّ من الفضيحة، أو قسوة الفقر، أو شظف العيش، أو مواجهة تعذيب الظلمة له، فذلك كله سيجده المنتحر بعد قتله نفسه.

ومن هنا –والله أعلم- أبرزت السُّنة في غير حديث شدة ما يجده المنتحر من عذاب مهين وعظيم وأليم ودائم، لتجسيد المقارنة بين المصيرين، مصير مواجهة أزمة الدنيا، ومواجهة عذاب الآخرة بحسب مجلة المجتمع المختصة بشؤون المسلمين حول العالم

فإن كان المنتحر يتصور أن الانتحار يعقبه راحة، فالسنة تقلب عليه الطاولة في هذا التصور، فروى الشيخان من حديث جندب البجلي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كان ممن كان قبلكم رجل به جرح فجزع، فأخذ سكيناً فحز بها يده، فما رقأ الدم حتى مات، قال الله تعالى: بادرني عبدي بنفسه، حرمت عليه الجنة»(1)، فالمنتحر لا تنتظره جنة، ولو بعد حين: «حرمت عليه الجنة»(2).

وإذا كان المنتحر يتصور أن ألم قتله نفسه سينتهي سريعاً؛ ولذلك يختار سبباً مفضياً إلى الموت بسرعة، كرميه نفسه تحت عجلات المترو، أو إلقائه نفسه من فوق مكان عال، أو تناول سم سريع، أو شنق نفسه ونحو ذلك ليحصل له الانتحار السريع دون طويل ألم، فالسُّنة تقلب عليه الطاولة في هذا التصور، روى الشيخان من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يتوجأ بها في بطنه في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً، ومن قتل نفسه بسم فسمه في يده يتحساه في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً، ومن تردى من جبل فقتل نفسه فهو مترد في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً»(3).

فسوف يؤمر يوم القيامة بتمثيل مشهد الانتحار في نار جهنم، لكن هذه المرة لن تخرج روحه، بل سيظل على هذا المشهد في النار، كما قال الحديث: «في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً».

عذاب الدنيا أهون

لم يكن صدفة أن يقول النبي صلى الله عليه وسلم هذه المقولة: «عذاب الدنيا أهون» في أشد أزمة يمكن أن يُصاب بها إنسان في الدنيا.

وقصة ذلك أن هلال بن أمية أحد الصحابة، دخل بيته ليلاً، فوجد مع زوجته رجلاً، فرأى بعينه وسمع بأذنه، فذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبره، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «اشهد أربع شهادات بالله إنك لمن الصادقين، وخامسة: أن لعنة الله عليك إن كنت من الكاذبين»، فشهد.

ثم أمر النبي صلى الله عليه وسلم زوجته أن تشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين، وخامسة: أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين، فتقدمت المرأة، فشهدت الشهادات الأربع، وقبل أن تشهد الخامسة، وعظها النبي صلى الله عليه وسلم ألا تشهد إن كانت كاذبة، قائلاً لها: «اتقي الله؛ فإن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة، وإن هذه الموجبة التي توجب عليك العذاب».

والشاهد: أنها لو لم تحلف هذه الأيمان، ستفضح نفسها، وستثبت عليها جريمة الزنا، وسترجم بالحجارة، فيجتمع عليها أقوى فضيحة في عرضها، وأشد عقوبة عرفها الإسلام: الرمي بالحجارة، ومع ذلك فقد قال لها النبي صلى الله عليه وسلم: «عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة»!

نعم، عذاب الآخرة أشد من فضيحة الزنا، وأشد مما تقاسيه من الرمي بالحجارة.

فمهما بلغ ما ينتظر المنتحر من فضائح وآلام وعذابات، فكل ذلك أهون من عذاب الآخرة.

الإطماع في رحمة الله

ومن وسائل محاصرة الإسلام لظاهرة الانتحار، أنه أطمع من يفكر في الانتحار برحمة الله، فقال تعالى: (وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً) (النساء: 29)، فالله لا يزال بك براً رحيماً مهما أصابك من ضر، فلست في هذا الكون وحدك تواجه مصائبك بقدراتك وإمكاناتك، بل معك مالك القوى، وصاحب القدر، وهو مع ذلك برُّ رحيم، يرفع الضر، ويكشف الكرب، ويزيل الهم، ويسكب في قلب عبده الصبر والرضا إن استمسك العبد بهما، وسأل الله أن يرزقه بهما.

من دواعي الانتحار عند المنتحرين عدم فهم حقيقة الدنيا، فبعض الناس يتصور أن حياته في الدنيا ستكون هادئة آمنة وادعة مترفة؛ الحوض ملآن، والروض أنف، والظلم مكفوف، والسرب آمن، والبدن معافى، والمزاج معتدل، يعيش فيها حياة، لا يجوع فيها ولا يعرى، ولا يظمأ فيها ولا يضحى، ولا يكد فيها ولا يشقى، فتفجؤه الدنيا بغير ذلك، والحال أنه لا يكون أعد لها صبراً يتبلغ به.

لكن القرآن صارح الإنسان أن الدنيا لن تكون كذلك، قال تعالى: (وَهُوَ الَّذِي خَلَق السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاء لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) (هود: 7)، أي: هو الذي خلق السماوات والأرض، وسخر لكم ما في السماوات والأرض ليمتحنكم، فيظهر أَيكم أحسن عملاً من سواه، فيجازيكم على عملكم لا ما علمه أزلاً بكم؛ فإِن العمل حجة على صاحبه.

فالحكمة إذن من خلق الإنسان، هي: الابتلاء، وبما أن الإنسان سيعيش حياة الابتلاء على الأرض، فمن ثم كان على الأرض أن تتجهز لتناسب طبيعة حياة الابتلاء.

فلا غرو أن كانت الحياة في الدنيا معركة طويلة الأمد، كثيرة التكاليف، محفوفة بالأخطار والمشقات؛ فيها يُبتلى الإنسان بالآلام والشرور: الجوع، والفقر، والمرض، وموت الأحباب.. إلخ.

يبتلي الله فيها المؤمنين بالآلام، التي يأتي بعضها وربما أكثرها من إيذاء الظالمين إياهم؛ لينظر هل ينساق المؤمنون في ركاب الظالمين دفعاً لضررهم، أم يجابهونهم، ويصدعون بالحق في وجوههم إيثاراً لما عند الله من مثوبة للمجاهدين.

الإيمان والأمن النفسي

ولئن كان الانتحار يرجع في بعض دواعيه إلى الاكتئاب والأمراض النفسية بعامة(4)، فليس كالدين شيء في سكب السكينة والطمأنينة في النفوس، يقول ابن القيم رحمه الله: «في القلب شعث لا يلمه إلا الإقبال على الله، وفيه وحشة لا يزيلها إلا الأنس بالله، وفيه حزن لا يذهبه إلا السرور بمعرفته، وصدق معاملته، وفيه قلق لا يسكنه إلا الاجتماع عليه، والفرار إليه، وفيه نيران حسرات لا يطفئها إلا الرضا بأمره ونهيه وقضائه، ومعانقة الصبر على ذلك إلى وقت لقائه، وفيه فاقة لا يسدها إلا محبته والإنابة إليه، ودوام ذكره، وصدق الإخلاص له، ولو أعطي الدنيا وما فيها لم تسد تلك الفاقة أبداً»(5).

ويصف د. يوسف القرضاوي السكينة النفسية التي يسكبها الإيمان في نفوس أصحابه، بأنها «روح من الله، ونور، يسكن إليه الخائف، ويطمئن عنده القلِق، ويتسلى به الحزين، ويستروح به المتعب، ويقوى به الضعيف، ويهتدي به الحيران».

كما يصف احتياج الإنسان إلى الإيمان بالله فيقول: في فطرة الإنسان فراغ لا يملؤه علم ولا ثقافة ولا فلسفة، وإنما يملؤه الإيمان بالله جل وعلا.

بمراجعة عيادات الطب النفسي، وجد أنها تطلب من مريض الاكتئاب أن يندمج اجتماعياً مع الآخرين، ويوسع القاعدة الاجتماعية التي يتعايش معها، باعتبار هذا جزءاً من العلاج، ولا يترك نفسه فريسة للوحدة والانطواء.

وهذا بدوره موجود في الإسلام، من صلة الرحم، وزيارة الأهل، والتفاعل الإيجابي مع المسلمين في بذل النصيحة وعيادة المريض وعزاء أهل الميت، وتشييع الجنائز، وصلاة الجماعة، واعتبار أسرة الإنسان ليست أسرته النووية، بل أسرته الممتدة التي تشمل الأهل والأقارب، وانتهاء بالنهي عن نوم الإنسان وحده، فعن ابن عمر مرفوعاً «نهى عن الوحدة: أن يبيت الرجل وحده، أو يسافر وحده»(6).

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد