عنوانٌ قد يبدو غريبا للبعض، وغير مألوف الحديث حوله، لكنه موضوع بحثي طويل، وكثير التشعب والتفاصيل، ولو أردنا تسليط الضوء على تفاصيله، لأجرينا له دراسة مستفيضة، فهذا الموضوع يظهر شكلاً مميزاً من أنواع المعاناة والقهر التي يعيشها الأسرى داخل السجون، وسنحاول الحديث هنا بإيجاز عما اشتكى منه الأسرى في الآونة الأخيرة من غلاءٍ للمعيشة وارتفاع أسعار السلع.

الحقيقة المرة التي يعلمها كل متابع ومهتم بقضية الأسرى، والتي يجب أن يعلمها الجميع، هي أن الأسرى الفلسطينيين هم الوحيدون في تاريخ حركات التحرر الذين لهم هيئة (وزارة سابقا) تعنى بشؤونهم، ويتلقون مخصصات شهرية منها، كأي موظف في السلطة الفلسطينية. وهذه المبالغ مقارنة بالدخل الفردي مرتفعة نوعاً ما، وهذا ليس خللا في الإنفاق، وإنما هو تقدير لتضحياتهم وواجب تجاههم وتجاه ضمان مستوى لائق من الحياة الكريمة لعائلاتهم وأطفالهم. ولكن الخلل يكمن في أن جزءاً كبيراً من هذه الأموال تذهب لتمويل السجون من جراء السياسة الممنهجة التي تتبعها إدارة مصلحة السجون في كمية ونوعية تزود الأسرى بما يلزمهم من احتياجات معيشية. إذ بات الأسرى يِشّبهون بنزلاء فنادق ورواد مطاعم يقومون بدفع ثمن إقامتهم بمبالغ خيالية، والإنفاق على ما يحتاجونه ويستهلكونه من مواد أساسية وكماليات. دون أن يتلقوا المعاملة الحسنة التي يجب أن يتلقاها بالعادة نزلاء الفنادق ورواد المطاعم ..!

بل والأدهى من ذلك أن السجون تحولت لأسواق تجارية ربحية وأماكن للاستثمار يجني منها الاحتلال ملايين الدولارات سنوياً، حيث يُجبر فيها المشترين (الأسرى) على شراء ما يُعرض عليهم في مقصف السجن "الكانتينا"، من سلع يتحكم بنوعيتها وجودتها وأسعارها البائع (الاحتلال)، ويضيف إلى سعرها الأصلي ما يعرف بخدمة التوصيل (ما يماثل إيصال الخدمات للمنازل).

فالأسرى الفلسطينيون بين مطرقة الظروف القاسية والحرمان من أبسط الحقوق وتنصل إدارة السجون الإسرائيلية من التزاماتها تجاههم في توفير مسكن ملائم ومأكل ضروري وملبس مناسب، وسندان احتياجاتهم للمواد المتوفرة في "الكانتينا" بأسعار باهظة الثمن وارتفاع غلاء المعيشة داخل السجون. فهم يعانون الأمرين، ويدفعون ثمن سجنهم وإقامتهم، وثمن مأكلهم ومشربهم وملبسهم واحتياجاتهم الأساسية من أدوات ومواد تنظيف وغيرها. كما ويدفعون ثمن استهلاكهم للمياه والمشروبات الباردة والساخنة، وأحيانا ثمن علاجهم وتكلفة عملياتهم الجراحية. بأسعار باهظة جداً، تضاهي الأسعار في أرقى المناطق السياحية في دولة الاحتلال ولربما في العالم. وأن ادارة السجون لا توفر من الملبس إلا الخارجي والرسمي، ومن الأكل ما يُعتبر أساسياً ويفتقر للقيمة الغذائية الضرورية وسيء الطهي.

قد يكون مقبولا ومطلوباً في الوقت ذاته السعي لتوفير بعض احتياجات الأسرى الأساسية للتخفيف من معاناتهم ولسد احتياجاتهم في ظل النقص الحاد الذي يعانون منه، ولكن من غير المعقول والمقبول أن نمول تكاليف احتجاز أبنائنا في سجون الاحتلال.

لقد اشتكى الأسرى في الآونة الأخيرة من ارتفاع غلاء المعيشة وزيادة أسعار السلع المعروضة في مقاصف السجون بشكل لافت. وأعربوا عن تذمرهم من استغلال إدارة السجون لحاجتهم لتك السلع. الأمر الذي لم يعد يُطاق أو يُحتمل. وبالمقابل ترفض إدارة السجون إدخال تلك السلع أو حتى الاحتياجات الأساسية فقط، عبر الأهل أو المؤسسات الرسمية، بما فيها الأغطية والملابس الشتوية، وتدفعهم مجبرين على شرائها من مقصف السجن وبالأسعار التي تحددها.

ولا شك أن الأسرى الفلسطينيين والعرب قد ناضلوا طويلاً من أجل السماح لهم بشراء بعض احتياجاتهم من مقصف السجن، كحق من الحقوق الأساسية التي نصّت عليها الاتفاقيات الدولية، ونجحوا في انتزاع هذا الحق. الذي تحول في العقدين الأخيرين من نعمة إلى نقمة.

ويتضمن النظام القائم ثغرات كثيرة لا أريد الغوص بتفاصيلها ويشكل عبئا على الأسرى وذويهم وعلى السلطة الوطنية الفلسطينية. حيث نجح الاحتلال –وأقولها بمرارة- في نقل كلفة معيشة الأسرى في سجونه إلى ملعب الفلسطينيين، الذين باتوا اليوم مطالبين بتمويل معتقلات أسراهم، بملايين الدولارات سنوياً، وأصبحت تكلفة احتجاز الأسير الفلسطيني في السجون الإسرائيلية على حساب السلطة الوطنية الفلسطينية. وهنا تكمن المصيبة.

وعليه فإن إعفاء سلطات الاحتلال من مسؤولياتها القانونية والإنسانية والأخلاقية تجاه الأسرى، وتحويلها إلى ميادين للاستثمار وجني الربح والاستفادة من ملايين الدولارات التي تُصرف لهم من خزينة السلطة الوطنية، يدفعها إلى التمسك باستمرار احتجاز الأسرى، بل واعتقال المزيد منهم، طالما أن ذلك لا يشكل عبئاً اقتصادياً عليها. وقد تتحول السجون في وقت لاحق إلى واحة من التنافس، بين الشركات الخاصة، الموكل إليها إدارة مقاصف السجون، لجني مزيدٍ من الأرباح.

الأمر الذي يستوجب منا جميعاً إعادة النظر بالآلية المتبعة، ذات الصلة بالموضوع، وهذا يتطلب إشراك الكل الفلسطيني وفي المقدمة منهم الأسرى أنفسهم. والعمل بشكل جماعي لإيجاد حل خلاق لجذور المشكلة. والضغط على سلطات الاحتلال لإجبارها على تحمل مسؤولياتها تجاه الأسرى وفقا للمادة (85) من اتفاقية جنيف الرابعة، ومواد الفصل الثاني من اتفاقية جنيف الثالثة، وكذلك تحمل أعباء استمرار احتجازها للأسرى في سجونها وتوفير احتياجاتهم الأساسية، والسماح بإدخال بعض الاحتياجات الأخرى عن طريق الأهل والمؤسسات الرسمية والحقوقية، و تخفيض أسعار بيع ما تعرضه من سلع "الكانتينا" مقصف السجن.

وقد يتفاجأ البعض إن قلنا بأن الاعتقالات الإسرائيلية لم تعد مشاريع خاسرة للاحتلال وأجهزته المختلفة، كما كانت في الماضي. مما يدفعه إلى التمسك باستمرار احتجازهم لأطول فترة ممكنة، بل واعتقال المزيد منهم، طالما أن ذلك لا يشكل عبئاً اقتصادياً عليه. وربما هذا ما يُفسر استمرار الاعتقالات اليومية دون مبرر وفرض الغرامات المالية الباهظة، والتي هي الأخرى بحاجة الى حل جذري، حيث أن أكثر من 90% من الأحكام الصادرة عبر المحاكم العسكرية بحق المعتقلين ولاسيما الأطفال، تكون مقرونة بغرامات مالية باهظة، فلا القانون الدولي يسمح بسرقة ونهب أموال المعتقلين وذويهم وابتزازهم، ولا المنطق الأخلاقي والوطني يبرر الاستمرار في دفعها وتمويل سجون الاحتلال من الخزينة الفلسطينية. كما ومن غير المعقول نقل العبئ للمعتقلين وذويهم. هذا بالإضافة إلى استمرار ادارة السجون في فرض غرامات مالية على الأسرى داخل سجونها ومعتقلاتها كإجراء عقابي لأتفه الأسباب، واستقطاعها من الأموال التي تدخل لهم.

ويبقى من واجبنا جميعاً الضغط على الاحتلال لإلزامه بتحمل مسؤولياته في توفير احتياجات الأسرى والمعتقلين، وجعل مشروع الاحتلال خاسراً في استمرار اعتقال واحتجاز أبناء شعبنا الفلسطيني.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد