يخطئ من يظن أن الإرهاب والتطرف هو مقصور فقط على تنظيم "الدولة الإسلامية في العراق والشام" المسمى "داعش" اختصاراً، وأنه عندما سيتم القضاء عليه سينتهي هذا النوع من الإرهاب المرتبط بالفكر الديني المتطرف، فجذور هذا التنظيم موجودة عميقاً في فكر وبنية تنظيمية أوسع، وقائمة في تنظيمات لها قاعدة اجتماعية عريضة ينجم عنها تنظيمات أصغر وأشد تطرفاً بين الفينة والأخرى، تنتجها عوامل وتدخلات دولية في إطار صراع المصالح الذي يعصف بمنطقتنا لتقسيمها وللسيطرة عليها واستغلالها.
هذا الفكر الذي يستند إلى مبدأ "الحاكمية الإلهية" ظهر لأول مرة في التاريخ الإسلامي بحسب الكثير من الباحثين على يد الخوارج في موقعة صفين عندما خرجوا من بين الصفوف ورفضوا تحكيم المحكمين، مكفرين القابلين به ومعلنين صيحتهم المشهورة: لا حكم إلا لله. وكلمة الحاكمية أتت من الحكم الذي هو الفصل في الخلافات. وأول من استخدمها في السياسة المعاصرة الداعية الإسلامي الهندي أبو الأعلى المودودي، الذي اعتبر أن سلطة الأمر من الحكم والتشريع كلها تعود لله وحده، وأن الخلافة الإسلامية "خلافة إلهية" يقوم فيها الإمام بوظيفة "خليفة الله". وكان أول من وصم المجتمعات الإسلامية بـ"الجاهلية" و"الكفر" لأنها لا تطبق "الحاكمية الإلهية".
ومن ثم انتقل هذا المبدأ إلى فكر "الإخوان المسلمين" حيث تأثر به وتبناه سيد قطب وأضفى عليه طابعاً أكثر تشدداً وحاول تطبيقه في انقلابه الفاشل على النظام السياسي في مصر في أعقاب ثورة 23 يوليو. وقال قطب في كتاباته "نحن اليوم في جاهلية كالجاهلية التي عاصرها الإسلام أو أظلم، كل ما حولنا جاهلية... تصورات الناس وعقائدهم، عاداتهم وتقاليدهم، مواد ثقافتهم، فنونهم وآدابهم، شرائعهم وقوانينهم، حتى الكثير مما نحسبه ثقافة إسلامية، ومراجع اسلامية، وفلسفة اسلامية، وتفكيراً اسلامياً.. هو كذلك من صنع هذه الجاهلية".
أي أن "الإخوان المسلمين" أول من أسس لاستخدام العنف ضد المجتمع والنظام السياسي باعتبارهما كافرين وجاهلين، وكل حركات الإسلام السياسي نشأت تحت عباءة "الإخوان" حتى لو تبنت عنفاً أكبر وتطرفاً أشد. وعندما يتم دمج الدين بالسياسة على قاعدة "الحاكمية الإلهية" يجوز فعل أي شيء ضد الناس في سبيل تطبيق حكم "خلفاء الله" على الأرض الذين لا يأتيهم الباطل من بين ايديهم ولا من خلفهم، وهم لا ينطقون عن الهوى وممثلون لحكم وإرادة الله، وهذا شأن "الإخوان" والجماعات التكفيرية التي انبثقت عنها والتي كانت "القاعدة" و "داعش" منها، وعندما تنتهي "داعش" بعد ان تستنفد ما هو منوط بها من تدمير وتخريب ستظهر حركات أخرى بأسماء أُخرى، ولكنها ستكون متشابهة في فكرها وعنها بل ربما تكون أكثر عنفاً وإرهاباً.
وإذا كانت المجتمعات والسلطات العربية معنية حقيقة بمحاربة "داعش" وكل "الدواعش" التي على شاكلتها لابد من العمل على تعديل الخطاب الديني ليس فقط لجهة تعميم مبادئ المساواة والتسامح ومحبة الناس ونشر الأمن والطمأنينة، وإنما كذلك لجهة تثبيت قواعد الحكم على فصل الدين عن السياسة واستبعاد فكرة "الحاكمية الإلهية" وقدرة بعض الحركات والاشخاص على أن يكونوا خلفاء الله على الأرض، فلا يمكن تصور أن شخصاً أو مجموعة تعتقد أنها تحكم باسم الله يمكنها أن تحقق العدل وتنصف الناس وتقيم حكماً يراعي مصالح المواطنين. فمجرد الظن أنها تملك الحق الإلهي هذا يجعلها تنكل بكل من يختلف معها باعتبار أنها تنطق بالحق القادم من السلطة السماوية. والدكتاتورية القائمة على المزج بين الدين والسياسة قد تكون أكثر فظاعة من الدكتاتوريات الأخرى القائمة على حكم الأحزاب الدنيوية التي تستأثر بالسلطة وتمنع الحريات ووجود المعارضة، والمعارضة في حال وجود الحكومات الربانية القائمة على "الحاكمية الإلهية" هي ضرب من ضروب الفكر وليس بعد الكفر ذنب.
نحن بحاجة لسياسات قائمة على التثقيف بمبادئ حقوق الإنسان والمساواة بين البشر بغض النظر عن الجنس أو العرق أو الدين أو المعتقد أو الفكر أو الرأي أو الانتماء السياسي أو الطبقي والاجتماعي، وكذلك تكريس مبدأ الديمقراطية في تداول السلطة واحترام الحريات بمختلف أنواعها وتحكيم المواطن الناخب في اختيار شكل الحكم والنظام الذي يرتئي بعيداً عن القهر والتسلط ومصادرة الحقوق، وفي إطار احترام الأديان وحرية ممارسة الشعائر لجميع المؤمنين على أن يظل الدين رسالة أخلاقية وعلاقة بين المؤمن وربه وليس عباءة للحكم والتسلط على الناس.
كما أن هناك حاجة لتوعية وتثقيف الشباب على وجه الخصوص بهذه المبادئ والاهتمام بحاجاتهم في تنمية حقيقية تستفيد من طاقاتهم ومساهماتهم الايجابية في خدمة المجتمع وتطوره والحد من البطالة ورفع مستوى المعيشة وتحقيق الأمان الاجتماعي والاقتصادي وتحقيق العدالة الاجتماعية النسبية، فالخطر يأتي اساساً من الفراغ الفكري والثقافي ومن ارتفاع معدلات الفقر والبطالة في المجتمع وتهميش الأجيال الشابة، ومعالجة هذه الظواهر يحاصر التطرف والجهل ويمنع استغلال طاقات الشباب في الأفعال التدميرية على غرار ما تقوم به "الدواعش" المختلفة. والحرب على التطرف والإرهاب لا ينبغي أن تنحصر فقط في معالجة الجوانب الأمنية إذا كانت هذه أصلاً موجودة بالصورة الجدية والكافية على أرض الواقع.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد