بحجم الغضب العارم، الذي تولده مشاهد العنف الأسود والبشع التي تظهر على شاشات المحطات والقنوات التلفزيونية، وبحجم التطرف الشديد والمغالاة في تعامل بعض الجماعات الإسلامية السلفية تجاه الآخر، كل الآخر، وبحجم التشوه الذي ألحقته هذه الجماعات بالإسلام، بحجم ذلك وأكثر، كانت دعوة الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي إلى ثورة في الإسلام.
الرئيس السيسي مؤمن بطبعه وطبيعته، وما ينقل من سيرته الذاتية، حول التزامه الديني العميق، هو ربما الذي جعل الرئيس السابق محمد مرسي يختاره لوزارة الدفاع، بعد أن أقصى الطنطاوي وعنان، ظناً منه أن الوزير الجديد، هو الأفضل من حيث قربه لجماعة الإخوان المسلمين، وأنه سيكون يد الجماعة في تغيير بنية المؤسسة العسكرية بما ينسجم وتطلعات الإخوان المسلمين.
الرئيس السيسي، كان هادئاً، متزناً، حين أطلق هذه الدعوة التي وإن بدا أن الكثيرين من السياسيين لم يتوقفوا عندها، إلاّ أن المؤسسة الدينية في مصر، لن تضعها في بئر خاربة كما يقال. كان هادئاً رغم أنه كان يعزي الشعب المصري بشهداء الجيش الذين تعرضوا لهجوم غادر مجرم، أودى بحياة أكثر من خمسة عشر جندياً وضابطاً وأكثر منهم جرحى. في مثل هذا المقام، تطغى على الكلمات مشاعر الحزن، وتستثير المأساة، عواطف المسؤول الذي يشعر بمعاناة شعبه، وتستفزه الجريمة، إلى أن يخرج عن المألوف، أو يكتفي بخطبة إنشائية خالية من المضامين السياسية والفكرية.
على غير ذلك كان الرئيس السيسي، فلقد أكد إيمانه بإسلامه، وإيمانه بشعبه، وبقدرته على إلحاق الهزيمة بكل من يتربص بمصر من الداخل كان أم من الخارج. السيسي لم يدع إلى ثورة على الدين، فما كان لمتدين حقيقي أن يفعل ذلك، ولكن اللافت للنظر أنه لم يدع للإصلاح الديني كما ينسب لمحمد عبده والطهطاوي وقاسم أمين مطالع القرن الماضي، وإنما ذهب إلى ما هو أبعد، من ذلك نحو ثورة في الدين.
كلمات الرئيس المصري القليلة ولكن الممتلئة بالمضامين والمعاني والمكثفة في الرسائل التي تحملها، وأرادها أن تصل إلى كل أصقاع الدنيا، ستظل كلمات تخضع للتفسير والتحليل والتأويل إلى أن تتحول إلى عمل ممأسس، يتجاوز المؤسسة الدينية وهي الأزهر الشريف، ويتجاوز منتسبي وزارة الأوقاف، ودارسي العلوم الدينية بمختلف فروعها إلى القطاع الواسع من المثقفين والإعلاميين، وأهل الفكر. على الكل أن يخوض هذه المعركة التي تأخذ طابعاً تاريخياً، فيما يتصل بمآلات التحولات التي تشهدها المنطقة العربية، ولم يعد الكثيرون يصفونها بالربيع العربي بدون أن يشتقوا تعبيرات مكثفة تعبر عن واقع الحال.
ما ورد في خطاب الرئيس المصري، أمام ثلة من ضباط القوات المسلحة، يطرح عناوين لطبيعة التناقضات والصراعات التي تجتاح المنطقة العربية، وبضمنها مصر. ثمة بعدان لهذا الصراع: الأول، يتعلق بمخططات تديرها قوى أجنبية، وهي وإن لم يسمها الرئيس السيسي لأسباب دبلوماسية، الولايات المتحدة وإسرائيل بالدرجة الأولى.
الولايات المتحدة وإسرائيل لاعبان أو هما في الحقيقة لاعب واحد من العبث أن تجد مكاناً في الوطن العربي، لا تلعب فيه أصابعهما في بعض الأحيان بشكل سافر، وفي بعضها بشكل خفي، وعبر أدوات، ودمى في المنطقة والجوار القريب، تعتقد أن لها مصالح في تفتيت الوحدات الجيوسياسية العربية الكبيرة، ولكنها ستكتشف أنها تخدع نفسها وشعوبها، لأن الولايات المتحدة لا تعرف منطق الشراكة حتى مع حلفائها المخلصين سوى إسرائيل.
الدور الأميركي واضح وسافر في ليبيا، وفي العراق وفي سورية، وقبل ذلك في السودان، وهو دور يتضح أكثر فأكثر تجاه اليمن، والبحرين ومصر والحبل على الجرّار.
المخطط الأميركي لا يستثني دولة كبيرة من الدول العربية، فهو بدأ في العراق ثم السودان، فليبيا، فسورية، وما لم يتوقف بفعل مواجهة عربية قوية، فإنه سيزحف نحو ما تبقى من الدول العربية، السعودية، الجزائر، المغرب، وفي مقدمة هؤلاء مصر التي تتعرض لمخطط يستهدف الدولة العميقة، ويستهدف الوحدة الجغرافية، وهو ليس محصوراً بسيناء التي أرادتها اتفاقية كامب ديفيد مفتوحة لاستيعاب التفجيرات السكانية، أو على الأقل لاستيعاب الأهداف الوطنية الفلسطينية وبضمنها الدولة، واللاجئون.
المخطط يستهدف كل مصر من صعيدها إلى دلتاها، ومن صحرائها في الشرق إلى صحرائها في الغرب على الحدود مع ليبيا، ولذلك فإن العنف الأسود ينتشر في كل مكان لزعزعة أركان الدولة المصرية.
أما الاتجاه أو المستوى الثاني للصراع في المنطقة، فهو لم يعد بين محكومين يتطلعون إلى التغيير والحرية، وحكام متأبدين على الحكم، فهذا ليس سوى مظهر مهم من مظاهر الصراع، بين مشروعين يتصارعان على مستقبل المنطقة، المشروع الإسلامي، بغض النظر عن مسمياته، وتنوع واختلاف الجماعات التي تحمله وبين التيارات الوطنية الليبرالية والعلمانية. المسافة ليست طويلة بين من يعتبرون أنفسهم أصحاب الفكر الإسلامي المعتدل، وبين من يصفون أنفسهم بالمتشددين من نوع «داعش»، و»القاعدة»، و»جبهة النصرة»، و»بيت المقدس»، والقائمة تحمل المزيد من الأسماء. فيما يتخذ هذا البعد الصراعي، طابعاً براغماتياً في البحث عن التحالفات، وعناصر القوة، يتولد وهم لدى الكثيرين من أن التحالف والتعاون والتقرب إلى الولايات المتحدة، وأحياناً إسرائيل، يشكل عامل قوة لهم. على هؤلاء أن يدركوا بأن أصحاب المخطط التقسيمي التفتيتي للمنطقة، هم أصل ومنبع الحملة العالمية الضارية على الإسلام والمسلمين، وانهم يمدون الأطراف بكل أسباب الصراع وأدواته بهدف تهشيم الجميع، حتى لا تقوم لأي منهم قائمة.
قد لا يبدو بأن مسألة تحقيق اصطفافات وتحالفات واضحة بين التيارين المتصارعين، وذلك بسبب كثرة اللاعبين، وتنوع أهدافهم وأساليبهم، ولكن خوض هذا الصراع على مستقبل المنطقة، أمر يستدعي الكثير من العمل، والكثير من التنازلات، والكثير من الصبر والمثابرة، فالحرية وصناعة التاريخ، لا يمكن أن تتحققا بدون أثمان باهظة.
من وجهة نظر موضوعية، تأخذ بعين الاعتبار التجارب الإنسانية التاريخية وطبيعة المكوّنات الثقافية والاجتماعية للمنطقة، فإن من الخطأ دفع الدين والسياسة في جهتين متقابلتين ومتصارعتين، وليس بالطبع الفصل بينهما عنوة، لكن الدين فسد وأفسد السياسة إن هو اقتحم مربعها، وفسدت السياسة، وأفسدت الدين إن هي اقتحمت مربعه، ولذلك لا بد من الفصل المفهوم للدين عن السياسة، لأن الدين ينظم العلاقة بين العبد وخالقه بينما السياسة تنظم العلاقة بين الإنسان والآخر.
وحتى لا تبدو المسألة صراعاً بين لونين، فإن الإسلام المعتدل ينبغي، بل أن له مصلحة دفاعاً عن الإسلام، ينبغي أن يكون في الخندق الأول، في مواجهة التطرف والمغالاة، وشطط الاجتهاد، الذي يسيء للإسلام الحقيقي والمسلمين الحقيقيين. المنطقة تمر في زمن الاستحقاقات التاريخية الكبرى، دفاعاً عن هُويّتها، وكياناتها، ودفاعاً عن معتقداتها، وموروثاتها الإنسانية، ودفاعاً عن حقها في اختيار مستقبلها، ولذلك من غير المقبول أن يتخلف أحد ممن يعتزّون بانتمائهم وهُويّتهم، عن المشاركة فيها بقدر ما يملك وما يستطيع.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد