اتهم الفنان محمد سباعنة بتجسيد النبي محمد (ص) في رسمه الأخير، رغم أن طبيعة الرسم تجريدية ورسالته تحتوي تجسيداً للمحبة والسلام التي انتشر لها وبها الإسلام وليس للرسول عليه السلام. وتدهور مستوى النقاش حول الرسم الكاريكاتوري للفنان المبدع دوماً سباعنة، والذي نشر في جريدة الحياة الجديدة، حتى وصل ببعض المحسوبين على مجال الصحافة والثقافة أن طالبوا سباعنة بالاعتذار عن لوحة فنية فشلوا هم في فهم معانيها ومن ثم رفضوا توضيح الفنان الوافي والشافي عنها.

والحقيقة أن هناك الكثيرين ممن عَلَت أصواتهم للدفاع عن سباعنة لأنهم فهموا قصده وقبلوا التوضيح الذي نشر ولأنهم متابعون لفنه ورسمه الراقي الذي دافع وبشكل مستمر عن قضايا إنسانية ووطنية ومنها الدفاع عن الإسلام ممن يشوهوه بجهلهم وغيهم وتعصبهم. تلك الأصوات أُغرقت بصراخ المستنكرين والمهاجمين والمكفرين وغيرهم من رُسُلِ القمع.

للأسف، وقع محمد سباعنة فريسة لهؤلاء اليوم وعلينا أن ندرك أن معركة سباعنة هي معركتنا جميعا. من حرض ودفع لتشكيل لجنة تحقيق بحق سباعنة يستهدف مساحة الحرية المتآكلة في فضائنا ويرفض وجود نقاش هادئٍ مبني على الفكر والأفكار. هؤلاء يسعون لترسيخ ثقافة التبعية العمياء والتي لا تقبل بوجود النقاش مهما كان حضارياً، لأن وجوده يهز عرش هيمنتهم الفكرية ومحدودية علمهم وامتناعهم عن التفكر والتدقيق في عمق الأمور بدل قشورها، لما في ذلك من جهد عقلي لم يعتادوا عليه.

مهمة الفنان والمثقف والرسام والكاتب والصحافي وغيرهم من المؤتمنين على مخاطبة العقول والقلوب تتضمن الارتقاء بالتفكير وتوسيع مساحة الحرية والنقاش ومجابهة المفاهيم البالية والرجعية في المجتمع. ممارسة هذه المسؤولية الكبيرة قادت العديد من المفكرين والعلماء والرسامين والأدباء إلى حتفهم في عصور مضت لأنهم تحدوا جهلاً كان مهيمناً على فكر الأغلبية، فأصروا أن كوكب الأرض ليس مسطحاً وبرهنوا وجود الجاذبية وأصروا أن الكيمياء ليست سحراً بل علماً أساسياً لخدمة البشرية وأن الموسيقى ابداعٌ يغذي الروح وليست شعوذةً من عمل الشيطان. هؤلاء وهبوا البشرية نور العلم والمعرفة والفن وندين لهم بالارتقاء الفكري والوجداني الذي من المفترض أن نكون قد وصلنا إليه.

وفي أزمنة أحدث من هذه، ألهم الثوريون في فنهم وكتاباتهم وأدبهم عقول الناس وأحيوا ضمائر الشعوب فكانت ابداعاتهم شعلة أفسحت للشعوب دروباً نحو الحرية الفكرية والوطنية والإنسانية. نشكر الله أن هؤلاء الشجعان سبقونا وستبقى بصمة إبداعاتهم موجودة في الوعي البشري الجمعي رغم موجة القمع والظلامية التي تجتاح حياتنا هذه الأيام.

لقد انقض الكثيرون على ريشة سباعنة ورسالته التي ما عرفناها إلا وطنية، قوية، جميلة، ولاذعة في صدقها وتلاشت بسرعة مدهشة مساحة النقاش الهادئ وحرية النقاش والفكر. محمد رسم فأبدع وتميز ووصلت رسالته الفنية والإنسانية والوطنية أصقاع الأرض كلها وبريشته رفع صوت فلسطين عالياً وأوصله إلى قلوب الناس. محمد سباعنة لم يرتكب جرماً ولم يهاجم قناعات الناس وعقيدتهم بل دافع عنها بطريقته ومقابل ذلك نابه من الإساءة ما يتخطى المنطق والعقل. من المعيب أن نحاصر فكر من عكس بفنه ألم قلوبنا وأمله. من العار أن نهاجم محمد وأن نقبل بما تعرض له من تحريض وهجوم وافتراء أوصل الأمر إلى ترسيخ تقليص مساحة الفكر بالإعلان عن تشكيل لجنة تحقيق في "واقعة رسم سباعنة".

لم يحدث يوماً أن كان هناك توافق والتقاء بين الفنان والناس والا لما كان الفن مصدر إلهام مستمر وعابر للأجيال والأزمنة والحضارات. هناك مساحة من الوعي والاحساس والإدراك هي جزء من موهبة الفنان ولن يتمكن الجميع من فهمها أو حتى رؤيتها. هذه المساحة من حق محمد سباعنة وغيره من المبدعين. واجب النظام السياسي هو حماية هذه المساحة وتوسيعها وإلا تحولنا وبسرعة لمجتمع غارق في الظلم والظلامية، بائس ويائس لأنه خنق مساحة الإبداع وفضاء النقاش واستبدلهما بضوضاء التعصب والجهل.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد