يشير الأكاديمي البحراني الدكتور جابر الأنصاري في احد دراساته إلى أن حديث البعض عن السلف يوحي بأنهم يتمثلون قيم الصحابة، فيما أن الحقيقة هي أن الناس ترث أقرب سلف لها، أي أن الابن يرث أباه الذي يرث جده، وهكذا، فان ذلك يعني بأن جماعات الإسلام السياسي حين تتحدث عن السلف فإنها تسعى إلى نشر قيم ومفردات ثقافة عهد ما قبل الحرب العالمية الأولى، أي ما نجم عن «خلافة عثمانية» حكمت البلاد العربية أربعة عقود بالتمام والكمال، شهدت خلالها البلاد والعباد ركودا وتخلفا وقحطا، وكل تفاصيل العصر الإقطاعي، خاصة في العقود المتأخرة من عمر الدولة العثمانية، في مقابل النهضة الأوروبية، حتى وصل التصادم لاحقا إلى أن يشارك «الرجل المريض» وهو لقب أطلق على الدولة العثمانية تلك، تعبيرا عما وصلت إليه من تخلف، في الحرب العالمية الأولى إلى جانب دول المحور، وهي ألمانيا النازية وايطاليا الفاشية، حيث خسر هذا المحور الحرب، وبالنتيجة كانت دولة «الخلافة العثمانية» سببا في احتلال دول الغرب الأوروبي، بريطانيا وفرنسا للدول العربية.
الاستعمار الغربي للبلاد العربية دفع نخبها، العسكرية خاصة، إلى تشكيل مجموعات التحرر الوطني والكفاح ضد الاستعمار، فيما كان ظهور الجماعات الإسلامية، على العكس من ذلك، لا يأخذ على الاستعمار الأوروبي كونه مستعمرا، ولا يطمح إلى الاستقلال، بل يأخذ أنه أسقط دولة «الخلافة» ويأخذ عليه كونه غير مسلم، وهكذا ارتبط ظهور أول وأهم جماعة إسلامية، وهي الإخوان المسلمين بالدعوة إلى الخلافة العثمانية، واعتبار كل ما ظهر من تغيرات سياسية، بما في ذلك ظهور قوى التحرر القومي والوطني خروجا على «بيت الطاعة» وخروجا على إرث السلف، رغم أن تركيا نفسها استوعبت أن «الخلافة العثمانية» قد سقطت إلى غير رجعة، وأنها لم تعد إلا كواحدة من مخلفات الماضي، لذا ظهر حزب تركيا الفتاة، الذي دعا لتحديث تركيا للحاق بركب التطور البشري، والذي أسس تركيا الحديثة، الحالية، والتي لفظت تماما «إرث» العثمانيين، ولا تفكر به، وحتى الحزب الإسلامي الحاكم فيها منذ نحو ربع قرن، لم يدع لا في حملته الانتخابية ولا لاحقا لإقامة الخلافة الإسلامية !
في الحقيقة، فإن انتشار ظاهرة الإسلام السياسي ووصول بعض جماعاته للحكم، ساهم كثيرا في كشف هذه الحقيقة الملازمة لجذر تشكيل هذه الجماعات وأساس فكرها وتفكيرها السياسي، فهي مطلقا لا تؤمن بالاستقلال الوطني، ولا تناصب الغرب العداء، إلا من زاوية الخلاف العقائدي، وهي بذلك تتشبث بأحد ثوابت فكرها السياسي، الذي يقدم الصراع مع ما يسمى بالعدو القريب على العدو البعيد، أي أنها تحارب امرأة غير محجبة أو رجلا غير متدين ولا تحارب مستعمرا ولا حتى مستوطنا، وتحارب نظاما حاكما أكثر مما تحارب دولة استعمارية!
يمكن التدليل على ذلك بكل بساطة الآن حين نرى ما يسمى بأنصار بيت المقدس ينصبون الكمائن لعناصر الجيش المصري، فيما الجنود الإسرائيليون على مرمى الحجر، كذلك تفعل «النصرة» و»داعش» وحتى « حماس » التي ترى في السلطة الفلسطينية، ومن قبلها «م ت ف» وحركة «فتح» عدوها أكثر مما ترى ذلك في الإسرائيليين، وهذه أيضا عقيدة حزب التحرير السياسية، الذي يجمع أنصاره للخروج في التظاهرات في رام الله قادما من القدس ، حيث لا يسجل ضده أي خرق ضد إسرائيل وكأن القدس ليست محتلة، وهذا ما تقول به الحركة الإسلامية في إسرائيل التي تنضبط لقوانين اللعبة السياسية الإسرائيلية في الوقت الذي تكيل فيه ليل نهار الشتائم والتحريض ضد المشروع الوطني الفلسطيني.
ما أن تصل جماعات الإسلام السياسي إلى الحكم أو إلى السيطرة على مناطق ما حتى تسارع إلى تطبيق ما يسمى «بأحكام الشريعة» أي بإشاعة أجواء القمع والتخلف والاضطهاد الداخلي، فهي لا ترى في كل التراث السياسي الإنساني الخاص بالديمقراطية إلا مظهرا من مظاهر «الكفر والفساد» ولا ترى فيه مظهرا لحكم الشعب ولا نتاجا للتقدم البشري على طريق إقامة حياة أفضل، حياة أكثر عدالة ومساواة، وهي عمليا ليست أكثر من رد فعل على ما أحدثته العولمة على المستوى الكوني، خاصة بعد انتهاء الحرب الباردة وانهيار جدار برلين.
الحكم يكشف إلى أي درجة يمكن أن تتحول حتى جماعات الدعوة إلى أحزاب فاشية، أو سلطات حكم ديكتاتوري، تقطع الرؤوس والأيدي وتجلد المعارضين، وتسعى عبثا لوقف عقارب الساعة وإدامة التخلف والجهل في المنطقة العربية، وفي أحسن الأحوال، مستوى السذاجة السياسية، حيث تفتقد هذه الجماعات إلى عقل أو مؤسسة تدير الشأن العام وفق معايير وقوانين العصر الحديث.
لسنا بصدد رصد تجارب الحكم لهذه الجماعات بالجملة ودون تفصيل، من جماعة «طالبان» و»القاعدة» في أفغانستان إلى دولة «داعش» وإمارة «حماس»، مرورا بأنبار الزرقاوي، وحتى يصل الأمر إلى حكم ملالي إيران، لنقول بان هذه الجماعات ما هي إلا عقبة في طريق خلاص الشعوب العربية والإسلامية من حالة التخلف المجتمعي وكل مظاهرها من الوجود الاستعماري والتبعية، إلى حكم الفرد والعائلة، أو أنظمة الحكم الديكتاتورية المنتشرة في كل البلاد العربية ومعظم الدول الإسلامية، وما يرافق هذا من جهل وفقر ومرض، لكننا نود أن نشير إلى أن هذه الجماعات، بغض النظر إن كانت في الحكم أو في المعارضة، إنما هي مظاهر المرض الاجتماعي وما هي إلا مخلفات رجل مريض، توفي منذ مئة عام، لكنه ما زال مثل مقام أو صنم، تحج إليه جموع الساذجين، الذين يتطلعون بحسن نية في أحسن الأحوال إلى ماض مضى، بدلا من مواجهة واقع حاضر صعب ومعقد ومستقبل غامض، لا بد من التحضير له بكل ما لدى الإنسان من قدرات حتى يعوض ما فاته ويلتحق بالآخرين من البشر.
Rajab22@hotmail.com

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد