في الثالث والعشرين من شباط الماضي نشرت مقالا بعنوان "ويل للمثقفين" وكانت مناسبة المقال تصاعد لهجة الناس في لوم المثقفين والكتاب ومطالبتهم بأن يجدوا حلولا لأزماتهم ولأنهم لم ينزلوا للشارع ولم يقودوا الشعب نحو الخلاص، هذا بعد يأسهم من الفصائل وانعدام الأمل بإنهاء الانقسام، كانت تلك اللهجة حاضرة في الورش والندوات ووسائل التواصل الاجتماعي ونسمعها حتى في اللقاءات الاجتماعية.

فقبل ثلاثة أشهر كانت الناس في غزة تختنق معتقدة أن من يكتب مقالا أو يظهر على شاشة تلفزيونية قادر بكلمة واحدة أن يضع حدا لهذا الانهيار الذي تقف خلفه قوى إقليمية، وفصائل فلسطينية تمتلك كل إمكانيات تأبيد الانقسام كتبت يومها أن دور المثقف ينحصر في "إنتاج المعرفة وليس قيادة الجماهير" وأن الأحزاب السياسية هي أداة التغيير وحركة الجماهير هي العامل المقرر الوحيد وليس غيرها .

اليوم يشتد الهجوم على المثقفين بشكل أكبر مع حملة الاستيزار الكبيرة التي تطل منذ أسابيع في قطاع غزة واتهام المثقفين بأنهم يعرضون أنفسهم وسط تلك الحملة الضروس بين حركتي فتح و حماس ، ونفس من كانوا يطالبون المثقفين بالتقدم يطالبونهم الآن بالتراجع ..! ليس هذا المهم بل إنه ليس هناك مثقف واحد من منتجي المعرفة بين الأسماء التي يتم تداولها حتى يبرر شن الهجوم عليهم ولا الفصائل تفكر بهم في عملية التركيب الجديدة، ولم يتردد سوى اسم الكاتب الدكتور إبراهيم أبراش وزير الثقافة السابق والذي قدم استقالته من الوزارة .

والأهم أن معظم الأسماء التي تتردد هي من موظفي منظمات المجتمع المدني وفي هذا خلط كبير إذا اعتبرت الناس أن بعض موظفي المجتمع المدني والقنصليات هم من بين المثقفين لأن المثقف ليس الموظف بل منتج الثقافة، ومن الظلم الهجوم على المثقفين بجريرة بعض الأسماء العاملة في مؤسسات دولية.

هذا لا يعني أن ليس من حق الناس أن تطمح للعمل العام أو أن تعلن رغبتها للعمل في الوظائف الأولى في النظام السياسي وهذا ليس حكرا على أحد، وخاصة بعد هذا المستوى من الخدمات الذي قدمته الأحزاب الحاكمة على مدى السنوات الماضية بينما قدمت مؤسسات غير حكومية نماذج أفضل بكثير، ومن حقها أن ترى في نفسها الكفاءة وإن كنت أختلف في شكل ومستوى العرض.

وهذا ربما يفتح نقاشا من نوع آخر على تسمية النخبة والتي طالها التشوه ارتباطا بأزمة النظام السياسي التي شوهت كل شيء خلال السنوات الماضية سواء في توصيف الناس للنخبة أو في توصيف النخبة لذاتها، حيث يكثر استخدام كلمة "نحن النخبة" فإن أفضل تعريف قدم في هذا المصطلح هو تعريف عالم الاجتماع السياسي الإيطالي فلفريدو باريتو الذي عرف النخبة بأنهم "هم الذين يتفوقون في تخصصاتهم"، فالنخبة ليست مقصورة على قطاع محدد، فمثلا ليس كل المثقفين هم النخبة بل هناك نخبة المثقفين الذين تفوقوا، وأيضا ليس كل المجتمع المدني نخبة بل من تفوقوا، وهناك من تفوق وحصل على جوائز دولية في هذا المجال، وكذلك نخبة الأطباء والمهندسين والسياسيين وغيرهم، كل هؤلاء يشكلون النخبة، ولأن لكل مجال نخبته، فمن حق تلك النخبة المتفوقة أن تجد في نفسها القدرة على المساهمة وفي إدارة المجتمع بشكل أوسع، وهنا يأتي الاستغراب من أن الحصة الأكبر في الأسماء التي تم تداولها منذ القوائم الأولى التي ثبت أنها غير صحيحة هم موظفو مؤسسات المجتمع المدني والقنصليات، وكأن النخبة الوحيدة في المجتمع هم مدراء تلك المؤسسات، فلا أطباء ولا مهندسين ولا رجال أعمال ولا أساتذة جامعات تفوقوا في تخصصاتهم، فقط هم الأكثر تفوقا .....!وفي هذا خطأ كبير وانتفاخ للذات ونظرة إقصائية لنخب التخصصات الأخرى، فالمجتمع يتكون من قطاعات متعددة يشكل المجتمع المدني أحد أعمدتها، وكان له دوره البارز خلال السنوات الماضية، ولكن حفلة الأسابيع الماضية تؤشر إلى أن هذا القطاع على وشك أن يتجاوز هذا الدور المصمم له ليتكامل مع باقي المجتمع، وليستمر في تقديم تجربة فريدة في العمل الأهلي والتطوعي وفي الدفاع عن حقوق الإنسان وحرية الرأي، وهذا اختصاص فريد وهام وتزداد أهميته في المجتمعات العربية لأنها تعيش واقع الإقصاء، وأرخص ما فيها هو الإنسان وحقوقه التي يتم الدوس عليها، ومن هذا التخصص لا شك أن هناك أناسا بارعين سيشكلون نخبته والتي من حقها أن تتقدم وتكون في قيادة المؤسسة، أما أن المجتمع المدني كله يريد أن يتقدم ففي هذا مشكلة تستدعي التوقف والمراجعة والإدراك أن هناك نخبة للمجتمع المدني، ولكن ليس كل المجتمع المدني نخبة وأن النخب موزعة على كل التخصصات، فليفكر كل واحد وما هو تخصصه وما مدى تفوقه على أقرانه من نفس التخصص، وحتى يكون لدينا نخب حقيقية تمارس دورها وتأثيرها في المجتمع من خلال تنوع القطاعات، وحتى يكون التأثير والضغط شاملا ومن جميع الاتجاهات.

من المحزن أن يتم الهجوم على المثقفين بجريرة غيرهم، ومن المؤسف أن يتم جلدهم في كل الظروف، مرة كأنهم مقصرون في إنهاء الانقسام وإنقاذ البلاد والعباد وعليهم التقدم، ومرة عليهم الانزواء عن طريق التشكيل الحكومي، ويبدو أن الناس لديها التباس حول مفهوم المثقف، فالمثقفون هم منتجو الثقافة من شعراء ورسامين وكتاب قصة ورواية وكتاب سياسيين، وهؤلاء منتجي المعرفة ليسوا مسكونين بهواجس الوزارات، لأن لكل منهم رصيدا واسعا يفوق أحياناً كثيرا من الوزراء، وعلاقة المثقف بالسلطة هي علاقة ملتبسة، وكثيراً ما يخشى المثقف على رصيده حين الاقتراب من السلطة والعمل في مؤسساتها العليا، وهناك نماذج قدمها المثقف الفلسطيني من تعالٍ على هذه المؤسسات سواء الاستقالة من الوزارة التي قدمها الكاتب إبراهيم أبراش أو النموذج الذي كان قد قدمه الشاعر الكبير محمود درويش عندما استقال من اللجنة التنفيذية للمنظمة.

فالسلطة لا تضيف شيئا لرصيد المثقفين، بالعكس فهي تتقرب منهم وتعرض عليهم العمل في مؤسساتها العليا لتشاركهم في هذا الرصيد أو تنسبه لنفسها باعتبارها تقدم للشعوب أناساً مشهوداً لهم، والمثقف ليس مسكوناً بهاجس السلطة لأن لديه ما يخسره، فأن يتم تصوير المثقف بأنه يزاحم على مواقع المسؤولية، ما يعكس خلطاً بين المثقفين وغيرهم وإهانة للمثقفين، وذلك بحاجة إلى وقفة ومراجعة أخرى بعد التوقف أمام مفهوم النخبة، لأن هناك الكثير من الذين يريدون أن ينتخبوا، لكن المفهوم له علاقة بالتخصص والتفوق....!!!

Atallah.akram@hotmail.com

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد