على الرغم من التأخير في توقيع إعلان الانضمام لمحكمة الجنايات الدولية، الذي سبقه مطالبة واسعة من مختلف الفاعلين السياسيين والاجتماعيين بضرورة القيام بذلك وبأسرع وقت، فهو، أي القرار، ليس جيدا فحسب، إدراكا بأنه وإن أتى متأخرا فهو أفضل من أن لا يأت أبدا، بل ويبقى شجاعا، لأنه يعني في جانب مهم منه رفضا للضغوط الهائلة التي مورست على القيادة الفلسطينية لثنيها عن فعل ذلك في ظل تهديدات بإتخاذ اجراءات عقابية بحقها، وهي التي جرت ترجمتها سريعا بقيام دولة الاحتلال، في باكورة ردود الافعال الانتقامية، بتجميد حوالي 120 مليون دولار من المستحقات الضريبية للسلطة الفلسطينية وقيام الولايات المتحدة من جهتها بمراجعة مساعداتها للسلطة والتي تصل إلى 440 مليون دولار. والقرار أيضا حكيم، لأنه وكما يبدو جرى تحضير بنية تحتية ملائمة له سابقة على اتخاذه، من بين عناصرها توافق الكل السياسي الفلسطيني، المتشظي أصلا، على الانضمام للمحكمة مدعوما بتحليل قانوني سياسي لتبعات الانضمام ومخاطره من جهة و لمواطن القوة والضعف في قرار متعدد الأبعاد من جهة ثانية.


يأتي القرار في ظل واقع شديد الخطورة، فالضحايا الفلسطينيين هم اليوم أبعد ما يكونون عن الوصول للعدالة، اما المسائلة والمحاسبة عن الجرائم المرتكبة في الأراضي الفلسطينية المحتلة، فإنهما أيضا أكثر ابتعادا عنها حيث يجري التضحية بهما وبقيم العدالة وقواعد القانون الدولي لصالح إفلات مجرمي الحرب الاسرائيليين من العقاب، حتى لتبدو العدالة في خصام مزمن مع الأراضي الفلسطينية وسكانها من الضحايا الفلسطينيين.
على مدى سنوات احتلالها للأراضي الفلسطينية، ارتكبت دولة الاحتلال وبشكل منظم جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية وقامت في سباق محموم مع الزمن بتغيير معالم الجغرافيا والديمغرافيا في الأراضي الفلسطينية في سياسات واجراءات لا تعرف كللا ولا رادع لها، لطمس هويتها العربية، الاسلامية والمسيحية، بالاستيطان وتهويد المدينة المقدسة واقامة جدار من الفصل العنصري. كما وقامت بشن ثلاثة عدوانات على غزة في أقل من ستة سنوات، وهي التي ترزح أصلا تحت حصار مشدد، تحللت خلالها من القواعد القانونية والأخلاقية وتجاوزت كل الخطوط الحمراء، قتلت خلالها آلاف المدنيين ودمرت منازلهم على رؤوسهم و أزالت مناطق عن الخارطة وتسببت في تشريد آلاف العائلات وقصفت مستشفيات ودور عبادة ومدارس ومرافق حيوية كثيرة. ويشي هذا المشهد عن تواطيء دولي يتمثل في تغييب للعدالة وفي توفير غطاء سياسي لما ارتكبته دولة الاحتلال من جرائم جعل منها دولة محصنة تحظى بضوء أخضر يتملكها شعور بأنها فوق القانون وبأن مجرمي حربها ممن أمروا او نفذوا هذه الجرائم لايمكن أن يخضعوا لأي شكل من المسائلة أو المحاسبة فهم يفلتون من العقاب ويمنحون حصانة وهو في النهاية ما يفسر هذا التغول في الدم الفلسطيني والفجور في ارتكاب الجريمة على مرأى ومشهد من العالم. فإذا غابت العقوبة أسيء الأدب، وهو ما يعني أن ما هو أسوأ قادم في ظل هذا الصمت الدولي المريب، ليس ذلك فقط بل أن اطرافا عدة في المجتمع الدولي وقفت في وجه أي ممكنات أو هوامش للتحقيق في تلك الجرائم أو تقديم أي من مجرمي الحرب الاسرائيليين إلى العدالة.


جمعنا منذ أسبوعين لقاء مع الدكتور صائب عريقات أكد فيه على أن القرار، لم يكن رد فعل على رفض مجلس الأمن لمشروع القرار المقدم من قبل السلطة وإن كان التوقيع على قرار الانضمام فعليا قد جاء متزامنا معه، إلا أنه وكما يبدو فقد قد جاء مستوفيا لشروط الانضمام قانونيا وسياسيا ولم يكن قفزا في الهواء.


إن قرار الانضمام بما يحتمل من فرص يجب أن يشكل عنوانا أخرا لنزع الشرعية عن الاحتلال وخطوة أخرى مهمة تقربنا أكثر نحو العدالة، فالعدالة في سياق الصراع المفتوح مع الاحتلال لن تتحقق بالضربة القاضية بل بمجموع النقاط وهو ما يستوجب أن يحظى القرار واخواته من أدوات الفعل المنظم وعناصر الاشنباك السياسي والقانوني بدعم من الكل الفلسطيني وأن توظف له كل الممكنات من الاسناد والدعم الفني والسياسي.


وحتى لايكون قرار الانضمام بيعا للوهم أو نوعا من الديماغوجيا التي تسعى لتوظيفه سياسيا أو أن تجرى المبالغة غير الموضوعية في قيمة المتوقع منه، على أهميته الكبيرة والاستثنائية، فإن الواجب الأخلاقي يقتضي التأكيد على أن المحكمة ليست بذاتها بل هي فضاء آخر جديد على درجة عالية من الأهمية للاشتباك السياسي والقانوني مع الاحتلال ومجرميه ونزع الشرعية القانونية والأخلاقية عنه، وهو ما يوجب الدخول اليه في قمة الجهوزية دن ارتباك أو تردد بعمل مهني محترف. ونعيد التأكيد على ما نقوله دائما بأن الشرعية لاتصنع العدالة، بل يجب توظيف كل الممكنات لنجعل من الشرعية ومن حقيقة أننا ضحايا طريقا لعدالة ناجزة وبحجم الدم الذي سال ولازال على الأرض الفلسطينية. أما وقد توافق الجميع وجرى التوقيع على وثيقة الانضمام للمحكمة، فإن هناك جملة من القضايا القانونية والفنية وجب القاء الضوء عليها في محاولة لعقلنة خطاب الانضمام للمحكمة والمتوقع منها.


في العام 2009، إثر العدوان الذي شنته دولة الاحتلال على القطاع في ما سمي الرصاص المصبوب، تقدمت دولة فلسطين بطلب لمحكمة الجنائية الدولية ملتمسة منها تفعيل ولايتها على الجرائم التي ارتكبت منذ يوليو 2002 وهو تاريخ دخول نظام المحكمة الأساسي حيز التنفيذ وسريان ولايتها على الجرائم المحددة في نظامها الأساسي. بعد ثلاث سنوات من التأخر في الرد على طلب فلسطين، أعلن السيد اوكامبو، المدعي العام للمحكمة في ذلك الوقت رفضه لطلب تفعيل ولاية المحكمة معللا ذلك بان الوضع القانوني لفلسطين كدولة لم يتقرر بعد من قبل الأجسام ذات العلاقة، اي مجلس الأمن والجمعية العامة للأمم المتحدة من جهة أو من الجمعية العامة للدول الأطراف في المحكمة من جهة ثانية.


ومنذ ذلك التاريخ فإن مياه كثيرة قد جرت في النهر، فقد صوتت الجمعية العامة للأمم المتحدة في نوفمبر من العام 2012 لصالح منح فلسطين صفة الدولة غير العضو، وهو ما يعني انها أصبحت لها شخصية الدولة التي تمكنها من الانضمام على الاتفاقيات الدولية بما فيها نظام روما المنشيء لمحكمة الجنايات الدولية. كما أن صيف العام الماضي شهد توافقا فلسطينيا على تشكيل حكومة توافق وطني، لينهي من الناحية الرسمية، وإن كان شكليا، وجود حكومتين واحدة في الضفة واخرى في غزة بما يعني انتفاء وجود مشكلة كانت سوف تكون عقبة في وجه "دولة فلسطين" قد تقوض قدرتها على الانضمام لاتفاقية روما. وهو ما يعني أن "دولة فلسطين" قد قررت هذه المرة بخلاف المرة السابقة الانضمام للمحكمة كطرف في اتفاقية روما وبالتالي السعي نحو تفعيل ولاية المحكمة وفقا لأحكام نظامها الأساسي وليس تفعيلها استثناء بشكل مؤقت "ad hoc".


وتفعيل ولاية المحكمة وفقا لنظامها الأساسي يتطلب توضيحا لتلك الولاية والتي تتحدد في في أربعة أسس وهي: نوع الجريمة ومكانها وزمانها ومرتكبها، أي أن اختصاص المحكمة يشمل الولاية الموضوعية والمكانية والزمانية والشخصية.


فمن الناحية الموضوعية تمارس المحكمة اختصاصها على الجرائم الأشد خطورة التي ارتكبها أفراد وهي تشمل أربعة أنواع: جرائم الابادة الجماعية، الجرائم ضد الانسانية وجرائم الحرب وجريمة العدوان.


وتمارس المحكمة اختصاصا زمنيا، بحيث يشمل تلك الجرائم التي ارتكبت بعد أن دخل النظام الأساسي للمحكمة حيز النفاذ، أي يوليو 2002، وهو ما يعني ان المحكمة لاتمارس أي اختصاص على الجرائم التي ارتكبت قبل ذلك التاريخ. وقد نظمت المحكمة ذلك الاختصاص عندما تصبح الدولة طرفا في النظام (الاتفاقية) بحيث أنه لا يجوز لها أن تمارس اختصاصها الا فيما يتعلق بالجرائم التي ارتكبت بعد بدء نفاذ النظام بالنسبة لتلك الدولة إلا إذا أصدرت أصدرت الدولة إعلانا بموجب الفقرة 3 من المادة 12 من النظام الأساسي بقبول اختصاصها الزمني، بأثر رجعي، على الجرائم التي ارتكبت منذ دخول الاتفاقية حيز النفاذ في يوليو 2002.


وهو ما قامت به دولة فلسطين، حيث أنها وقعت إعلان الانضمام للمحكمة ألحقته بإعلان أخر، تعلن بموجبه قبولها باختصاص المحكمة منذ الثالث عشر من يونيو 2014 وليس منذ يوم قبولها عضوا في الاتفاقية ودخولها حيز النفاذ في دولة فلسطين وهو المتوقع أن يحدث في مارس 2015، أي أن الولاية الزمنية سوف تشمل وبأثر رجعي تلك الجرائم التي ارتكبت قبل العدوان على غزة مباشرة في الضفة وبطبيعة الحال بما يشمل العدوان على القطاع، واجزم أنه ليس من باب التصادف أن يكون تحديد الولاية الزمنية للمحكمة هو نفس الولاية الزمنية للجنة التحقيق المستقلة والمشكلة بموجب قرار مجلس حقوق الانسان في يوليو من العام الماضي والتي يترأسها السيد ويليام تشاباس والتي ترفض دولة الاحتلال السماح لها بالدخول إلى الأراضي الفلسطينية للتحقيق في الجرائم المرتكبة.


يتبع.....

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد