حلم الشهيد أحمد تحقق و"مريم" قالتها أخيراً :"بابا"

مريم ووالدها الشهيد أحمد

كما أي أب، كان أحمد يحلم بأن تكبر ابنته الوحيدة مريم على عينه، فيسمع منها كلمة "بابا"، ويراها تخطو أولى خطواتها وهي تتشبث بأنامله الطويلة بينما يشجعها بقوله :"يلا يا مريومة دا دا".

كان يخطط بأن يعلق زينة عيد ميلادها الذي خطط له برفقة زوجته حنان بيده، وأن يشاركها النفخ على شمعة عمرها الأولى بنفسه، ثم يضحكون سويةً ويلتقطون صورةً للذكرى لا تموت.

أشارت حنان بيدها نحو حائطٍ عُلقت عليه بالونات على شكل أرقام من (1 – 12)، كل بالون صمم خصيصاً ليحمل صورةً للصغيرة مريم في كل شهرٍ من أشهر عامها هذا، تُقلب حنان صور هاتفها الذكي لتتنقل بين صور الصغيرة التي ولدت في الثامن من أغسطس/ آب للعام 2017م، تطلق تنهيدة عالية وتقول :"لو كان أحمد بيننا لعمل لمريم عيد أحلى من هيك بكثير".

الشهيد أحمد محمود الرنتيسي (27 عاماً) من سكان مدينة غزة ، واحدٌ من ضمن 60 فلسطينياً استشهدوا في 14 آيار/ مايو من عام 2018م، برصاص جنود القناصة الإسرائيلية خلال مشاركتهم ضمن آلاف المتظاهرين في مسيرات العودة وكسر الحصار على الحدود شرق قطاع غزة.. تقرأون قصته هنا:

44397322_1007569012748901_184282344998305792_n.jpg
 

خطوات مريم

في غرفة الضيافة ذرفت أم مريم دموعاً صاحبها نحيبٌ حاولت أن تكتمه في صدرها فلم تستطع. حماتها (وتكنى أم أنس) مسحت على رأسها في محاولةٍ لتطبيب جرحها النازف قبل أن تنهمر من عينيها هي الأخرى دموعاً كان صوت الحزن فيها صاخباً جداً، أما والد زوجها الأستاذ المشارك في قسم "تكنولوحيا التعليم" بالجامعة الإسلامية بغزة، فلم يجد إلا أن يتمتم وحده "آاااه- الله يرحمك يابا"..

عمّ الصمت بضع لحظاتٍ قبل أن تزور الغرفة "مريم".. دخلت تسابق الريح بخطواتها -خشية أن تقع- لتحظى بحضن الجد وهي تنادي بكلماتٍ غير واضحة: "دادا- امما- ماما- بابا".

خرجت أمها حنان تنيرة (22 عاماً) عن صمتها عندما تمتمت بصوت منخفض يرتعش حزناً :"سامعين.. هذا بس كان هو حلم أحمد.. يسمع صوتها وهي بتنادي بابا، بس".

يوم استشهد أحمد، كان أبعد التوقعات عن قلب زوجته حنان أن يحدث ذلك وتفقده! في ذلك اليوم لم يقف عند باب البيت قبل أن يرحل ليسمعها قائمة الوصايا في حال عاد محمولاً على الأكتاف يهتفون باسمه شهيداً. في ذلك اليوم مضى سريعاً بعد أن أغلق باب بيت أمه وقال :سلام عليكم.

إلى "رنتيس"

الشهيد الرنتيسي الحاصل على درجة البكالوريوس من قسم التجارة باللغة الإنجليزية، كان يعمل محاسباً في شركة خاصة، ويستعد لإنهاء دراسة الماجستير في الإدارة التربوية.. كانت جل أحلامه تتجمع حول "حنان- مريم- ورضا أبويه".

كان أحمد بكامل قواه العقلية عندما انطلق في ذلك التاريخ نحو الحدود، كان يظن أن المطالبة بحق العودة إلى بلدته "رنتيس" في الشمال الشرقي من مدينة اللد المحتلة عام 1948م، تحت مظلة "السلمية" أمر كفلته القوانين الدولية، لكنه لم يكن يعلم أن غيابه هناك سيطول، وأن جسده الذي اخترقته أربع رصاصات سيكون شاهداً على زيف كل "الديموقراطيات" أمام حق العودة.

يقول أبوه :"هو آخر عنقود سبعةٍ من الأبناء، كان بشوش الوجه وازن العقل، مجتهداً طموحاً"، تقاطعه زوجته أم الشهيد لتكمل وقد مسحت بمنديلها دموع الفقد :"الله يرضى عليه ويرحمه، صحيح أنه كان أصغر أولادي، لكن كان أكثرهم حناناً علي وعلى أبوه وعلى خواته".

آخر الهدايا

صور أحمد ملأت زوايا الغرفة، لتزيد في قلب حنان كلما باغتها بعد كل لفتة وجعاً على وجعها، بعد عامين من الزواج فقدت السند، وتناثرت أحلامها كعقدٍ انفرطت حباته إلا حبة "مريم"، أخرجت من كيسٍ قريب عباءة، وفستانين صغيرين يشبه مقاسهما مقاس مريم، اشتراهم أحمد قبل أربعة أيامٍ من استشهاده، لتبدأ الحديث بالقول :"ناداني أحمد، حكالي بسرعة جهزي حالك بدي آخدك عالسوق، جاوبته وأنا مستغربة: ليش؟ حكالي: بالطريق بتعرفي.. بسرعة قبل ما السوق يسكر".

في الطريق عرفت حنان أنه كان يود شراء هديةٍ لها "عباءة" كانت أخبرته أنها رأتها في أحد المحلات فأعجبتها"، ليخرج من السوق وقد أنفق ما في جيبه ليميل نحو أذنها ويهمس ممازحاً :"اعملي حسابك.. هادي آخر هدية"، لم تفهم حنان قصده إلا بعد استشهاده.

وتضيف :"عامان، كانا أجمل سنوات عمري، لم أر كرماً مثل كرمه، وابتسامة مثل ابتسامته، وحناناً مثل حنانه، كان أحمد كل حياتي، وكان مستقبل مريم الذي لم يكتمل".

أحمد كان شغوفاً ببناء العلاقات، كان الجميع يكن له مشاعر الحب والوفاء، "أحيمد" كما كان والده يحب أن يناديه -كونه آخر العنقود- كان الأقرب إلى فقراء حيه، يحاول أن لا ينام ليلةً دون أن يطمئن إلى أن في كل دارٍ ما يقي أهلها ذل السؤال، كان يحمل هم أن يبيت أي طفلٍ وهو جائع، ينظر إلى مريم قبل أن ينام ويقول :"لعل صنع الخير يعود لي على هيئة فرح يعشش طول العمر.. في قلب مريم".

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد